البحث في زكاة الدَيْن، أهي على الدائن باعتباره المالك الحقيقي للمال، أم على المدين باعتباره المتصرف فيه والمنتفع به؟ أم يعفى كلاهما؟ أم هي على كليهما؟ والأخير لم يقل به أحد، منعًا للازدواج. وروي عن عكرمة وعطاء إعفاء كليهما، وقالا: لا يُزكِّى الذي عليه الدين، ولا يُزكِّيه صاحبه حتى يقبضه (المحلى: 2/101، وقال البيهقي (في السنن: 4/150): وقد حكاه ابن المنذر عن ابن عمر وعائشة).
وروى ابن حزم عن عائشة أم المؤمنين: ليس في الدَيْن زكاة. ومعناه أنه لا زكاة على الدائن ولا المدين، وأيَّد ذلك ابن حزم، وهو مذهب أصحابه من الظاهرية.
ووجه قولهم: أن مِلْك كل منهما غير تام، أما المدِين، فلأن المال الذي في يده ليس له، ويده عليه ليست يد مِلْك، بل يد تصرف وانتفاع، والمال على مِلْك صاحبه الدائن، له أخذه متى شاء.
وأما الدائن فلأن المال ليس في يده حقيقة، وغيره هو الذي يتصرف فيه، وينتفع به، فكان مِلكه عليه ليس بتام.
وهناك قول نسبه في “الأموال” إلى النخعي: إن زكاة الدَيْن الذي يُمْطلُه صاحبه على الذي يأكل مهنأه (الأموال ص 432، وروي مثله عن عطاء، كما روى عنهما ما يخالفه). أي على الذي ينتفع به ويتصرف فيه بالفعل، فإذا كان لشخص دِيْن عند تاجر، ينميه ويستفيد منه ويماطل في دفعه، فزكاته على هذا الرأي واجبة على التاجر.

وهذه نظرة إلى من بيده المال لا إلى من يملكه. وهذا مخالف لشرط المِلْك التام، الذي يكاد يجمع عليه الفقهاء. ولعله جعل زكاته على المدين في مقابلة مطله.
أما جمهور الفقهاء منذ عصر الصحابة ومن بعدهم، فيرون أن الدَيْن نوعان:
دَيْن مرجو الأداء، بأن كان على موسر مقر بالدَيْن، فهذا يعجل زكاته، مع ماله الحاضر في كل حَوْل.
روى أبو عبيد ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وجابر بن عبد الله من الصحابة، ووافقهم على ذلك من التابعين: جابر بن زيد ومجاهد وإبراهيم وميمون بن مهران (المرجع السابق ص 430).
والنوع الثاني دَيْن غير مرجو أخذه، بأن كان على معسر لا يُرجَى يساره، أو على جاحد ولا بيِّنة عليه. ففيه مذاهب:
الأول: أن يزكيه إذا قبضه لما مضى من السنين، وهو مذهب علي وابن عباس.
الثاني: أنه يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة وهو مذهب الحسن وعمر بن عبد العزيز وهو مذهب مالك في الديون كلها: مرجوة وغير مرجوة (وإنما يُزكى الدين عند مالك لسنة من يوم زكَّى أصله إن كان قد زكَّاه، أو من يوم مِلْك أصله، إن لم تجب الزكاة فيه، بأن لم يقم عنده حَوْلاً، ولو أقام عند المدِين أعوامًا. فإذا قبضه زكَّاه لعام فقط، بشرط أن يتم المقبوض نصابًا بنفسه، ولو على دفعات.
ومحل تزكيته لعام فقط إذا لم يؤخر قبضه فرارًا من الزكاة: أي قصدًا إلى التهرب من وجوبها عليه. وإلا زكَّاه لكل عام مضى، كما قال ابن القاسم.
وهذا ما لم يكن أصل الدَّيْن هبة أو صدقة، واستمرا بيد الواهب والمتصدق، أو صداقًا بيد الزوج، أو خلعًا بيد دافعه، أو تعويض جناية بيد الجاني، أو وكيل كل، فلا زكاة فيه إلا بعد حول من قبضه ولو أخَّر فرارًا.
والديون المرجوة وغير المرجوة في ذلك سواء، لا يستثنى منها إلا الديون التجارية المرجوة للتاجر المدير – الذي يشتري ويبيع بالسعر الحاضر – فإنه يحسبها في كل حَول ويزكيها مع سلعه ونقوده، ويعني بالديون التجارية: ما كان أصلها ثمن بضاعة باعها، أما ما كان أصله قرضًا اقترضه فلا زكاة فيه. انظر الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه: 1/466).
الثالث: أنه لا زكاة عليه لشيء مما مضى من السنين، ولا زكاة سنته أيضًا وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، وهو عندهم كالمال المستفاد يستأنف صاحبه به الحَوْل (الأموال: ص 434 – 435).
هذا وقد اختار الإمام أبو عبيد – إذا كان الدين مرجوًا – الأخذ بالأحاديث العالية، التي ذكرها عن عمر وعثمان وجابر وابن عمر: أنه يزكيه في كل عام مع ماله الحاضر، ما دام الدين على الأملياء (جمع ملئ وهو الغني)، لأن هذا حينئذ بمنزلة ما في يده وفي بيته.
وأجاز أبو عبيد – على حذر منه – تأخير زكاة الدين إلى القبض، فكلما قبض منه شيئًا زكَّاه لما مضى إذا لم يؤد ذلك إلى الملالة والتفريط.
أما الدَيْن الميئوس منه، أو كالميئوس منه، فقد اختار العمل فيه على قول علي وابن عباس: أنه لا زكاة عليه في العاجل، فإذا قبضه زكَّاه – لما مضى من السنين، وأيَّد ذلك ببقائه على ملكه، فكيف يسقط حق الله عنه في هذا المال، ومِلْكه لم يزل عنه؟ (الأموال ص 434 – 435).
ونحن نوافق أبا عبيد فيما اختاره في الدين المرجو، لأنه كما قال: بمنزلة ما في يده. وأما الدين لذي يئس منه صاحبه فلا. فإنه – وإن بقي على أصل ملكه – لا يد له عليه، فهو مِلْك ناقص، والملك الناقص ليس بنعمة كاملة، والزكاة إنما تجب في مقابلتها. إذ الملك التام – كما ذكرنا – هو ما كان بيده، لم يتعلق به حق غيره، يتصرف فيه على حسب اختياره وفوائده حاصلة له (مطالب أولي النهى: 2/14).
فمقتضى تمام المِلْك، أن تكون له قدرة على الانتفاع بالمال المملوك بنفسه أو نائبه. ولم يتحقق ذلك هنا.
وهذا مذهب أبي حنيفة وصاحبيه في الدين الميئوس منه. وفي المال “الضمار” بصفة عامة: وهو كل مال غير مقدور على الانتفاع به، لأن المال الذي لا يقدر مالكه على الانتفاع به لا يكون به غنيًا، والزكاة إنما تجب على الأغنياء (بدائع الصنائع: 2/9).
فرأي أبا حنيفة في اعتبار هذا النوع من الدَّيْن المجحود أو الميئوس منه. والمال الضمار بصفة عامة إذا قبضه صاحبه كالمال الجديد المستفاد، فلا يُزكَّى لما مضى من السنين. وإن كنا نرجِّح مذهب الحسن وعمر بن عبد العزيز ومالك في تزكيته عند قبضه لسنة واحدة، بناء على رأينا في المال المستفاد، وأنه يُزكَّى عند استفادته وتملكه، دون اشتراط حَوْل.