شهر رجب هو من الأشهر الحرم فكان إذا جاء شهر رجب نُزِعت الأسنة من الرماح ووضِعت الأسلحة وحُقنت الدماء، فكانت له حرمة لا يجوز أن تنتهك، وتسمية رجب بالأصم لهذا السبب فكان لا يُسمع فيه قعقعة السلاح ولا صوت النفير للقتال.

والعرب في زمانهم القديم كانوا يسمُّون أيام الأسبوع وشهور السَّنة بأسماء تختلف عن المعهود لنا عند مجيء الإسلام، وكان للجو الطبيعي والنّظام القبلي دخل في تعيين هذه الأسماء، وشهر رجب كان يسمى قديمًا “أحلك” كما يقول المسعودي في كتابه “مروج الذهب” ويقول البيروني: إنّ رجب كان يسمّى بالأصمِّ، وهو أحد الأشهر الأربعة التي قال الله فيها: (إنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهَرًا فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ مِنْها أرْبعَةٌ حُرُمٌ) (سورة التوبة : 16) وهذه الأشهر الحُرُم قد عيّنها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأسمائها في خُطبته في حجّة الوداع، وقال عنها : ثلاثة سَرد وواحد فرد: والثلاثة السّرد هي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم، والفرد هو رجب.
ولفظ رجب فيه معنى التعظيم، حيث كان العرب في الجاهليّة يعظّمونه ولا يستحلّون فيه القتال، كما لا يستحلُّونه في الأشهر الأخرى، غير أنه لما كان وحده بعيدًا عن أشهر الحج أعطَوه اسمًا فيه معنى التعظيم حتى يتذكّره الناسُ ولا ينسَوه، وكان الكثيرون يعتمرون فيه قبل دخول موسم الحجّ.

ولعلّ وصف رجب بالأصم مأخوذ من السُّكوت حيث لا تُسمع فيه قَعقعة السلاح بالقتال، ولا الصّيحة بالاستنفار إليه، يقول القرطبي في تفسيره: كانت العرب ـ تُسمّيه ـ أي رجب ـ منصِلَ الأسنة، أي مُخرجها من أماكنها، كانوا إذا دخل رجب نزعوا أسنّة الرّماح ونِصال السِّهام إبطالاً للقتال فيه، وقطعًا لأسباب الفتن لحُرمته، وقد ورد ذِكْر ذلك في البخاري عن أبي رجاء العطاردي، واسمه عمران بن ملحان، قال: كنا نعبُد الحجَر، فإذا وجدنا حجَرًا هو خير منه ألقينَاه وأخذنا الآخَر، فإذا لم نجد حَجَرًا جمعنا حثوةً من تُراب ثم جِئنا بالشّاء فحلبْنا عليه ثم طُفنا به، فإذا دخل شهر رجب قلنا: منصل الأسنّة فلم ندع رمحًا فيه حَديدة، ولا سهمًا فيه حَديدة إلا نزعناه فألقيناه.

وكان من عادة العرب النّسيء، وهو تأخير بعض الأشهر الحرم إلى غير موعدها استعجالاً للقتال، وكان للقلمس وأولاده زَعامة النّسيء، لا يردُّ كلامهم، وكانت ربيعة بن نزار تؤخّر رجبًا، وتجعل بدله رمضان، وكان من العرب من يُحلُّون رجبًا، ويحرِّمون شعبان، لكن “مضر” كانت تحافِظ على حُرْمة شهر رجب لا تستحلُّه أبدًا، وجاء ذلك في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجّة الوداع كما رواه الشيخان، وهو يخبِر أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّمواتِ والأرض، وعيَّن الأشهر الحُرم، وعند ذكر رجب قال “ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان” فأضافَه إلى مضر؛ لأنّها كانت تحافظ على تحريمه أشدّ من محافظة سائر العرب.

قال ابن حجر في فتح الباري: أضافه إليهم لأنهم كانوا يتمسّكون بتعظيمه بخلاف غيرهم، وقد بيَّن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ موضع رجب بأنه هو ما بين جمادى وشعبان، وليس هو ما كان في نَسيئِهم الذي يؤخِّرونه به عن موضعه الحقيقي.
هذا هو شهر رجب الأصمّ الذي نَدب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ صيام ما يستطاع منه ومن غيره ومن الأشهر الحرم، ولم يَرِد فيه بخُصوصه حديث باستحباب الصيام يَرتقي إلى درجة الصِّحّة.