يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :-
اختلف الفقهاء كثيرا في لبث الجنب والحائض في المسجد، بلا وضوء، لقوله تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) النساء: 43.
ومعنى (عابري سبيل): أي مجتازي طريق.
وأجاز الحنابلة اللُّبث للجنب في المسجد إذا توضأ، لما روى سعيد بن منصور والأثرم عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله ﷺ، يجلسون في المسجد، وهم مجْنبون، إذا توضأوا وضوء الصلاة.
ترجيح جواز اللبث في المسجد للجنب والحائض:
وهناك من الفقهاء من أجازوا للجنب ـ وكذلك للحائض والنفساء ـ الُّلبث في المسجد، بوضوء أو بغير وضوء، لأنه لم يثبت في ذلك حديث صحيح، وحديث “إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب” ضعفوه، ولا يوجد ما ينهض دليلا على التحريم، فيبقى الأمر على البراءة الأصلية. وإلى هذا ذهب الإمام أحمد والمزني وأبو داود وابن المنذر وابن حزم، واستدلوا بحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما: “المسلم لا ينجس. وكذلك قياس الجنب على المشرك، فقد أجيز للمشرك وغير المسلم دخول المسجد، فالمسلم الجنب أولى.[1]
وأنا أميل إلى هذا اتباعا للأدلة، وجريا على منهجنا في التيسير والتخفيف، وخصوصا على الحائض، فإنها أولى بالتخفيف من الجنب، لأن الجنابة يجلبها الإنسان باختياره، ويمكنه دفعها وإزالتها باختياره، أي بالغسل، بخلاف الحيض، فقد كتبه الله على بنات آدم، فلا تملك المرأة أن تمنعه، ولا أن تدفعه قبل أوانه، فهي أولى بالعذر من الجنب. وبعض النساء يحتجن إلى المسجد لحضور درس أو محاضرة أو نحو ذلك، فلا تمنع منه.
ترجيح مس الجنب للمصحف:
وذهب بعض الفقهاء إلى تحريم مس المصحف على الجنب، مستدلين بالآية الكريمة: (لا يمسه إلا المطهرون) الواقعة: 79، وبالحديث الشريف: “لا يمس القرآن إلا طاهر”. وقد ناقشنا هذين الدليلين في فصل (لماذا نتوضأ؟) وبينا: أن المراد بالطاهر: المؤمن، وأن المؤمن لا ينجس، ولا ينبغي أن يحرم من مس المصحف وحمله.
قال الشيخ الألباني: والبراءة الأصلية مع الذين قالوا بجواز مس القرآن من المسلم الجنب، وليس في الباب نقل صحيح يجيز الخروج عنها. فتأمل.[2]
قراءة القرآن للجنب:
كما ذهب بعض الفقهاء إلى تحريم قراءة القرآن على الجنب، لحديث عليٍّ رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ كان لا يحجبه ـ أو لا يحجزه ـ عن قراءة القرآن شيء، ليس الجنابة. رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي، ولكن قال الحافظ في (الفتح) ضعّف بعضُهم بعضَ رواته.
والحق أنه لم يصح حديث يمنع الجنب من قراءة القرآن، حتى الحديث المذكور ليس فيه دليل على التحريم، فقد تحجزه الجنابة عن القراءة لأنها مكروهة، أو خلاف الأولى، وليس بالضرورة لأنها محرمة.
وقد سئل سعيد بن جبير عن الجنب يقرأ؟ فلم ير به بأسا، وقال: أليس في جوفه القرآن؟!
وذكر البغوي في (شرح السنة)[3]: عكرمة من المجيزين قراءة الجنب.[4]
وهو مذهب داود وأصحابه وابن حزم، وهو المتفق مع ما صح أنه ﷺ كان يذكر الله على كل أحيانه. وتلاوة القرآن من أعلى مراتب الذكر.
على أن القراءة على هذه الحال لا تخلو من الكراهة التنزيهية، لحديث: “إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر”. وقد جاء في الصحيح: أن رجلا سلم على النبي ﷺ فلم يرد عليه السلام، حتى أتى إلى جدار في المدينة، فتيمم، ثم رد عليه السلام، وذلك لما في السلام من ذكر الله تعالى. حيث يقول: “ورحمة الله وبركاته”.
[1] انظر: تمام المنة للألباني ص118،119. والمنهل العذب المورود للسبكي (2/312،313).
[2] انظر: تمام المنة ص 116.
[3] انظر: شرح السنة (2/43).
[4] انظر: تمام المنة ص116-118.