يتجلى أثر هذا الضمير الذي صنعه الإيمان بالله واليوم الآخر في مجال المواساة والإيثار بالمال والنفس وغير ذلك من الأخلاق الاجتماعية. فكان الرجل يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ويبذل له من ذات يده، ومن جهده ووقته ما يبذله لأعز بنيه عليه، وأحب أهليه إليه.
وقد يرتقي الإيمان بأحدهم، فيؤثر أخاه على نفسه، فيجود له بالشيء، وهو أحوج ما يكون إليه، كل ذلك ولا قانون يُلزمه، ولا حكومة تطالبه، ولا أجهزة تراقبه، ولا عقوبة تُسلط عليه، وإنما هو دافع الإيمان بين جنبيه، يحفزه على عمل الخير، والتطوع بالبر، ابتغاء ما عند الله وما عنده خير وأبقى.

مواقف من إيثار الصحابة:

-روى مالك في موطئه أنه بلغه عن عَائِشَةَ رضى الله عنها أن مسكينًا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فأمرت جارية لها أن تُعطيه الرغيف، فقالت الجارية: ليس لك ما تُفطرين ! فقالت: ” أعطيه إياه ” ففعلت، وربما يظن بعض الناس أنها إنما آثرت بالرغيف لهوانه عليها، فليسمعوا هذه القصة التي رواها المؤرخون والمحدثون:
بعث معاوية بن أبي سفيان بثمانين ألف درهم إلى عَائِشَةَ، وكانت صائمة وعليها ثوب خلق، فوزعت هذا المال من ساعتها على الفقراء والمساكين ولم تُبق منه شيئًا. فقالت لها خادمتها: ما استطعت أن تشترى لنا لحمًا بدرهم تفطرين عليه؟ فقالت: يا بنية؛ لو ذكرتيني لفعلتُ (رَواهُ الحَاكِمُ في المستدرك) !.
إن الصائمة التي آثرت المسكين بالرغيف وليس في بيتها ما تُفطر عليه غيره، آثرت بمئات الألوف من الدراهم دون أن تذكر بطنها الجائع، ولا ثوبها الخلق.
-ومثل عَائِشَةَ زينب بنت جحش أم المؤمنين، التي كانوا يلقبونها بـ ” أم المساكين ” حدثت برزة بنت باتع أنه لما خرج العطاء أرسل إليها عمر نصيبها منه، فلما دخل عليها حامل المال، قالت: غفر الله لعمر ! غيري من أخواتي كان أقوى على قسم هذا مني، فقالوا: هذا كله لك. قالت: سبحان الله. واستترت منه بثوب ثم قالت: صُبُّوه واطرحوا عليه ثوبًا.
قالت راوية القصة: ثم قالت لي: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان – من أهل رحمها وأيتامها – فقسمته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب. فقالت لها برزة بنت باتع: غفر الله لك يا أم المؤمنين. والله لقد كان لنا في هذا حق، فقالت: فلكم ما تحت الثوب، قالت: فكشفنا الثوب فوجدنا خمسة وثمانين درهمًا (طبقات ابن سعد، جـ 3، ص 201).
-وأخذ عمر بن الخطاب أربعمائة دينار، فجعلها في صرة، ثم قال لغلامه: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تله (تشاغل) في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع. فذهب بها الغلام إليه.. فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفدها. ورجع الغلام إلى عمر فأخبره، فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل، فقال: اذهب بها إلى معاذ وتله (تشاغل) في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، تعالي يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، واذهبي إلى بيت فلان بكذا، واذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة هي امرأة معاذ وقالت: نحن والله مساكين، فأعطنا، فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فرمى بهما إليها. ورجع الغلام إلى عمر فأخبره: فُسر بذلك فقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض ” (رَواهُ الطَّبرانيُّ في الكبير).
-وروى ابن سعد أن عبد الرحمن بن عوف باع لعثمان بن عفان أرضًا له بأربعين ألف دينار، فقسم ذلك في الفقراء من أقاربه، وفي ذي الحاجة من الناس، وفي أمهات المؤمنين (طبقات ابن سعد، جـ 2، ص 12 – 13).
-وروي أن عيرًا (قافلة تجارية) قدمت لعبد الرحمن، فكان لأهل المدينة يومئذ رجة، فقالت عَائِشَةَ، ما هذا؟ قيل لها: هذه عير عبد الرحمن بن عوف قدمت، فقالت عَائِشَةَ: أما إني سمعت رسول الله يقول: ” كأني بعبد الرحمن بن عوف على الصراط، يميل به مرة ويستقيم أخرى، حتى يفلت ولم يكده “… فبلغ ذلك عبد الرحمن فقال: هي وما عليها صدقة.
قال راوي القصة: وكان عليها أفضل منها، قال: وهي يومئذ خمسمائة راحلة.. بهذه السهولة جاد الرجل بكل هذا المال وكل هذه التجارة التي ارتجت لها المدينة وقال كلمته: هي وما عليها صدقة !
-وروى البُخاريُّ ومسلم وغيرهما عن أنس قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل. وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (اسم حديقة له) وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 92)… قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله؛ إن الله تبارك وتعالى يقول: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة. أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله : (بخ بخ… ذاك مال رابح ! ذاك مال رابح).
-وذكر الغزالي في الإحياء عن ابن عمر قال: أهدى إلى رجل من أصحاب رسول الله رأس شاة فقال: فلان أحوج إليه مني، فبعث به إليه. فبعث به هو أيضًا إلى آخر يراه أحوج منه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول، بعد أن تداوله سبعة !.

الإخاء والإيثار لدى الأنصار:

ولا يحسبن القارئ أن هذه كانت حوادث فردية، لا تصور حقيقة المجتمع كله، فإن أمثال هذه المواقف كثيرة جدًا، وهي تصور بحق روح المجتمع واتجاهه وفلسفته ونظرته إلى المال والحياة.
روى البُخاريُّ في الأدب المفرد عن ابن عمر قال: (لقد أتى علينا زمان – أو قال: حين – وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم).
وحسبنا أن القرآن الكريم سجل للأنصار في المدينة – وهم جمهور المجتمع الإسلامي بها – هذه الصورة الراقية من صور الإخاء والمواساة والإيثار فقال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9)