يقول الأستاذ الدكتور جمال الدين عطية رئيس تحرير مجلة المسلم المعاصر:
الحدود الشرعية هي العقوبات التي فرضها الشارع على من يخالف أحكامه الرئيسية، وهي بهذه المثابة نوع من أنواع الضوابط الاجتماعية التي تضاف إلى ضمير الفرد ورقابة المجتمع لضمان حسن السلوك الفردي والجماعي .
ويتصور البعض أن تطبيق الشريعة هو تطبيق الحدود، بينما الحدود كما أشرنا ليست إلا وسيلة من وسائل الضبط الاجتماعي التي ينبغي أن يسبقها إيجاد الفرد المسلم والمجتمع المسلم وتطبيق القيم الإسلامية بأنواعها المختلفة، ثم تأتي بعد ذلك الضوابط المختلفة التي أشرنا إليها.
ولا شك أن تغافل تطبيق الحدود يعتبر نقصًا في النظام الاجتماعي من الناحية الشرعية؛ إذ لا يمكن للمجتمع –أي مجتمع- أن تنتظم أموره دون ضبط اجتماعي، ولكن لا يعني هذا أن نفهم أن تطبيق الشريعة ينحصر في تطبيق الحدود الشرعية كما أشرنا.
ويقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي
ليس التشريع في الإسلام محصوراً في الحدود والعقوبات كما يتصور بعض الناس أو يصوّرون. إن التشريع في الإسلام ينظم العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأسرته، وبين الإنسان ومجتمعه، وبين الحاكم والمحكوم، وبين الأغنياء والفقراء، والملاك والمستأجرين، وبين الدولة الإسلامية وغيرها في حالة السلم وحالة الحرب. فهو قانون مدني و إداري، ودستوري ودولي …… إلخ .
إلى جانب أنه قانون ديني. ولهذا اشتمل الفقه الإسلامي على العبادات والمعاملات، والأنكحة والمواريث، والأقضية والدعاوى، والحدود والقصاص والتعازير، والجهاد والمعاهدات، والحلال والحرام، والآداب، فهو ينظم حياة الإنسان من أدب قضا ء الحاجة للفرد إلى إقامة الخلافة والإمامة العظمى للأمة. إن الحدود هي السياج، وهى الإعلان الناطق بأن المجتمع المسلم يرفض جرائم معينة، ولا يسمح بها بحال من الأحوال.
والحدود – كما شرعها الإسلام – ليست بالبشاعة التي يتصورها بعض الناس أو يصورها المبشرون والمستشرقون.
إن الغربيين يستبشعون هذه العقوبات لسببين ذكرهما العلامة المودودي في حديثه عن حد الزنا في كتابه (الحجاب)، قال رحمه الله: (إن الضمير الغربي يشمئز من عقوبة الجلدات المئة. والسبب في ذلك لا يرجع إلى كونه لا يحب إيذاء الإنسان في جسده. بل السبب الحقيقي أنه لم تكتمل بعد نشأة شعوره الخلقي، فهو بينما كان يعد الزنا من قبل عيباً وهجنة إذ به الآن لا يعتبره إلا لعباً وسلوة، يعلل به شخصان نفسيهما ساعة من الزمن! فهو يريد لذلك أن يسامح في هذا الفعل ولا يحاسب عليه، إلا إذا أخل الزنا بحرية رجل آخر أو بحق من حقوقه القانونية.
وحتى عند حصول هذا الإخلال لا يكون الزنا عنده إلا من صغار الجرائم التي لا تتأثر بها إلا حقوق شخص واحد، فيكفى المعاقبة عليه بعقاب خفيف أو تغريم ! ( وبديهي أنه من كان هذا تصوره للزنا لا بد أن يرى حد المئة جلدة عقوبة ظالمة لهذا الفعل. ولكنه إذا ارتقى شعوره الخلقي والاجتماعي وعلم أن الزنا سواء كان بالرضا أو بالإكراه، وكان بامرأة متزوجة أو باكرة، جريمة اجتماعية في كل حال تعود مضارها على المجتمع بأسره، فإنه لا بد أن تتبدل نظرته في باب العقوبة، ويعترف بوجوب صون المجتمع من تلك المضار، وبما أن العوامل المحركة للمرء على الزنا متأصلة جدا في جبلته الحيوانية، وليس من الممكن قلع شأفتها بمجرد عقوبات الحبس والغرم، فلا مندوحة لقمعه من استخدام التدابير الشديدة. ومما لا شك فيه أن وقاية ملايين من الناس مما لا يحصى من المضار الحفيّة والعمرانية بإيذاء شخص أو شخصين إيذاءً شديدًاً خير من دفع الأذى عن الجناة، وتعريض الأمة كلها لمضار لا تنحصر فيها، بل تتوارثها أجيالها القادمة أيضاً بلا ذنب لها.
( وهناك سبب آخر لاعتبارهم حد المئة جلدة من العقوبات الظالمة، يفطن به المرء بسهولة إذا أنعم نظره في أسس الحضارة الغربية. وذلك أن حضارة الغرب – كما أسلفنا- قد قامت على إعانة ( الفرد ) على ( الجماعة) وتركبت عناصرها بتصور مغلو فيه للحقوق الفردية. لذلك مهما كان من ظلم الفرد واعتدائه على الجموع، فلا ينكره أهل الغرب، بل يحتملونه غالباً بطيبة نفس، ولكنه كلما امتدت إلى الفرد يد القانون حفظاً لحقوق الجماعة، اقشعرت منه جلودهم خوفاً وفزعاً، وأصبح كل نصحهم وتحمسهم بحق الفرد دون الجماعة.
( ثم إن ميزة أبناء الجاهلية الغربية – كأهل الجاهلية في كل زمان – أنهم يهتمون بالمحسوسات أكثر من اهتمامهم بالمعقولات. ولهذا يستفظعون الضر الذي ينال الفرد لكونه ماثلاً أمام أعينهم بصورة مرئية. ولكنهم لا يدركون خطورة الضرر العظيم الذي يلحق المجتمع وأجياله القادمة جميعاً، على نطاق واسع، لأنهم يكادون لا يحسون به لسعته وعمق آثاره ).
وأود أن أذكر هنا: أن الإسلام يشدد في إثبات الجريمة تشديدًاً غير عادي، وخصوصاً في جريمة الزنا، وهي لم تثبت في عهد النبوة والراشدين إلا بالإقرار، كما أنه يفتح الباب للتوبة، فمن صدقت توبتة سقط عنه الحد على الرأي الراجح. وسقوط الحد لا يعنى إسقاط العقوبة بالكلية، فقد ينتقل إلى التعزير المناسب.