اختلف العلماء حول حقيقة المس بين معترف بهذا، وبين منكر له. وستظل المسألة خلافية تتنازعها الأقوال، خاصة أنها مسألة عملية، يحتاج من ينفيها أن يفسر الواقع على وجه مقبول عقلا حتى يستقيم مذهبه، وأما من يثبتها فهو يستدل بوقائع ملموسة، ويعزز موقفه استعداد الناس النفسي لقبول هذه الظاهرة.

يقول الدكتور يوسف القرضاوي:-

الأصل أن الجن هو الجنس المستور عن الأعين، كلمة جن تفيد الستر، والله تعالى قال عن الشيطان: “إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم”، ولكن يمكن أن يتشكل الجن في صورة إنسي، كما تشكل لأبي هريرة -رضي الله عنه- وأمسك به، وكاد يأخذه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لولا أنه نصحه بنصيحة وتركه من أجلها، وقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “هذا شيطان، وقد صدقك وهو كذوب”، والحديث معروف في البخاري.
ولكن هناك ادعاءات كثيرة برؤية الجن والعلاقة بالجن والزواج بالجن، وتلبس الجني بالإنسي ومعظم هذه الدعاوى باطلة و، كثير من الناس ممن يدّعي أنه ركبه الجني أو العفريت أو نحو ذلك هم يعانون أمراضا عصبية ونفسية؛ مثل ازدواج الشخصية، ونحو ذلك ولا علاقة للجن بهذه الموضوعات.

ويقول الشيخ المستشار فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث:-

اختلف العلماء اختلافاً كثيراً في مس الشيطان للإنسان هل يتعدى ذلك إلى البدن فيصيبه بالسقم والمرض والأوجاع والآلام الشديدة حتى يصل إلى حالة الصرع والجنون المتداول بين الناس اليوم بقولهم “فلان قد لبسه شيطان” فذهب بعض العلماء إلى الجواز.
و ذهب البعض الآخر إلى عدم الجواز معللين بأن الشيطان لا يستطيع ذلك ولا قدرة له عليه لأن كيد الشيطان ضعيف كما أخبر الله تعالى، ولأنه إذا جوزنا ذلك له فإنه يختلط مع أفعال الله تعالى فيقع الالتباس وقد استدلوا بأدلة لا داعي لذكرها ههنا.

وقد استدل المجيزون لذلك (أي القائلون بإمكان دخول الجن جسم الإنسان ) بأدلة كثيرة : منها قوله تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) سورة ص آية 41) فاعتبروا أن ما أصاب النبي أيوب عليه الصلاة والسلام في بدنه من فعل الشيطان وهو صريح الآية عندهم، ومنه ما أصابه في ماله وولده حيث هلكوا جميعاً.
لكن العلماء الذين منعوا أن يكون ذلك من الشيطان قطعاً كانوا قد فسروا الآية تفسيراً ينسجم مع الآيات الأخرى، والأحاديث الصحيحة، والتي تبين أن الشيطان لا سبيل له على المؤمنين المخلصين فمن باب أولى أن لا يتسلط الشيطان على الأنبياء في أبدانهم وأموالهم وأولادهم، وهو ما جزم به الإمام ابن العربي، والذي نقله له الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن جزء 15 ص 209 عند تفسير الآية.
فمنهم من فسر الآية على أن ما حصل لأيوب عليه الصلاة و السلام من الابتلاء في البدن والمال والولد إنما هو من الله تعالى وأضيف إلى الشيطان تأدباً مع الله سبحانه وتعالى،انظر الجامع لأحكام القرآن جزء 15 ص، 210.
وقد فسرها بعض منهم على نفس الأساس، وهو: أن ما أصابه في بدنه وذهاب ماله وولده وذهاب الخيرات عنه ونعيم الدنيا أن ذهاب ذلك من الله تعالى وحده، لكن الشيطان كان يذكره النعم التي كانت والآفات التي حصلت، وكان هو يعمل على دفع تلك الوساوس الشيطانية ،فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى الله، وقال: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) (صـ : 41 ) انظر التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي جزء 26 ص 213. كما استدلوا على ذلك بأوجه أخرى تركناها خشية الإطالة واقتصرنا على أبرزها.

إن في القرآن الكريم آيتين ترتبطان بالمس واحدة عن بعد وأخرى عن قرب أما الأولى فهي قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف : 201 ) وهذا ظاهر في وسوسة الشيطان وغوايته عن بعد دون الدخول في أبدانهم، انظر تفسير الفخر الرازي جزء 15 ص، 98 وذكره الإمام القرطبي بقوله: (والمعنى: إن الذين اتقوا إذا لحقهم شيء تفكروا في قدرة الله عز وجل، وفي إنعامه عليهم فتركوا المعصية) انظر الجامع لأحكام القرآن جزء 7 ص 350.
وأما الثانية فهي قوله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة : 275 ).
وقد استعرض الإمام الفخر الرازي نوعين من التفسير لهذه الآية: الأول عن الجبائي ( من المعتزلة) أن الشيطان يمس بوسوسته المؤذية التي يحدث عنها الصرع، وهو كقول أيوب عليه السلام (إني مسني الشيطان بنصب وعذاب) وإنما يحدث الصرع عند تلك الوسوسة؛ لأن الله خلقه من ضعف الطباع وغلبة السوداء عليه بحيث يخاف عند تلك الوسوسة فلا يجترىء فيصرع عند تلك الوسوسة كما يصرع الجبان من الموضع الخالي، ولهذا المعنى لا يوجد هذا الخبط في الفضلاء الكاملين).

وقد ساق المسألة والرد عليها وأبطل أن يكون للشيطان مدخل على الإنسان إلا من جهة الوسوسة مستشهداً بالمعقول والمنقول.

القفال من علماء الشافعية ينكر دخول الجن جسم الإنسان

أما النوع الثاني فقد نقله الإمام الفخر الرازي عن القفال من الشافعية بقوله: وذكر القفال فيه وجهاً آخر، وهو أن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن، فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا، وأيضاً من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان كما في قوله تعالى (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) (الصافات : 65 )نظر تفسير الفخر الرازي جزء 7 ص 88 – 89. ولم نجد للإمام الرازي موقفاً من المسألة سوى ما عرضه عرضاً.
وقال أبو السعود في تفسيره، وقد تابع الزمخشري في المسألة :(وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع من المس وهذا أيضاً من زعماتهم أن الجني يمسه فيختلط عقله. انظر تفسير أبي السعود جزء1 ص 266. ويبدو لي أنه نقله عن الزمخشري من الكشاف على ما يأتي.

وقال الزمخشري في الكشاف: (إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان ) أي المصروع وتخبط الشيطان من زعمات العرب يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرعه، والخبط الضرب على غير استواء كخبط العشواء، فورد على ما كانوا يعتقدون، والمس الجنون ورجل ممسوس، وهذا أيضاً من زعماتهم وأن الجني يمسه فيختلط عقله، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن ورؤيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات. انظر الكشاف جزء 1 ص 399.

تفسير القرطبي للآية:

وقد وقف الإمام القرطبي أمام هذه الآية وقال: (في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن)، نظر الجامع جزء 3 ص 355. وذكر العلامة الآلوسي المسألة ،فوقف أمام تفسير الآية على أن المرابي في الدنيا لا يقوم يوم القيامة إلا كما يقوم المتخبط المصروع في الدنيا وأصله ضرب متوال على أنحاء مختلفة، ثم تجوز به عن كل ضرب غير محمود.
ثم أورد تفسيراً للآية عن ابن عطية على أن المراد بالآية تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقول لمن أسرع بحركات مختلفة: قد جن. ثم رد عليه الآلوسي بقوله: ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة.

الآلوسي يرد على المعتزلة إنكارهم لدخول الجن جسم الإنسان:

ثم يدخل في مسألة مس الجن وصرعه لبعض الناس فينتصر له ويعترض بشدة على كل من أنكر ذلك بقوله: “وقال المعتزلة والقفال من الشافعية: إن كون الصرع والجنون من الشيطان باطل؛ لأنه لا يقدر على ذلك كما قال تعالى حكاية عنه: (وما كان لي عليكم من سلطان) الآية، و(ما) هنا وارد على ما يزعمه العرب ويعتقدونه من أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله” فيقول الآلوسي: وليس ذلك حقيقة وليس بشيء بل هو من تخبط الشيطان بقائله ومن زعماته المردودة بقواطع الشرع فقد ورد ( ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخاً) وفي بعض الطرق (إلا طعن الشيطان في خاصرته) ومن ذلك يستهل صارخاً إلا مريم وابنها لقول أمها (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) وقوله عليه الصلاة والسلام (كفوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشياطين).
وقد ورد في حديث المفقود الذي اختطفته الشياطين وردته في زمنه عليه الصلاة والسلام أنه حدث من شأنه معهم قال: (فجاءني طائر كأنه جمل … فاحتملني على خافية من خوافيه) إلى غير ذلك من الآثار وفي لقط المرجان في أحكام الجان كثير منها. واعتقاد السلف وأهل السنة أن ما دلت عليه أمور حقيقية واقعة كما أخبر الشرع عنها. والتزام تأويلها كلها يستلزم خبطاً طويلاً لا يميل إليه إلا المعتزلة ومن حذا حذوهم….

والآية التي ذكروها في معرض الإستدلال على مدعاهم لا تدل عليه إذ ” السلطان” المنفي فيها: إنما القهر والإلجاء إلى متابعته لا التعرض للإيذاء والتصدي لما يحصل بسببه الهلاك. ومن تتبع الأخبار النبوية وجد الكثير منها قطعاً بجواز وقوع ذلك من الشيطان بل وقوعه بالفعل،وخبر (الطاعون من وخز أعدائكم الجن) صريح في ذلك.
وقد حمله بعض مشايخنا المتأخرين على نحو ما حملنا عليه مسألة التخبط والمس، حيث قال: إن الهواء إذا تعفن تعفنا مخصوصا مستعدا للخلط والتكوين تنفرز منه وتنحاز أجزاء سمية باقية على هوائيتها، أو منقلبة بأجزاء نارية محرقة فيتعلق بها روح خبيثة تناسبها في الشرارة وذلك نوع من الجن فإنها على ما عرف في الكلام أجسام حية لا ترى إما الغالب عليها الهوائية أو النارية ولها أنواع عقلاء وغير عقلاء تتوالد وتتكون فإذا نزل واحد منها طبعا أو إرادة على شخص أو نفذ في منافذه أو ضرب وطعن نفسه به يحصل فيه بحسب ما في ذلك الشر من القوة السمية وما في الشخص من الاستعداد للتأثر منه كما هو مقتضى الأسباب العادية في المسببات.