يقول الدكتور حسام عفانه –أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس بفلسطين-:
أبدأ أولاً بالكلام على قول النبي ﷺ ( ليلني منكم أولو الأحلام والنهى) فهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه بإسناده عن أبي مسعود رضي الله عنه قال (كان رسول الله ﷺ يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال أبو مسعود فأنتم اليوم أشد اختلافاً ).
ورواه مسلم أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ ( ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثلاثاً وإياكم وهيشات الأسواق) ، وأبو مسعود راوي الحديث الأول هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري البدري رضي الله عنه توفي سنة 40 هجرية وهو غير راوي الحديث الثاني عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه المتوفى سنة 32 هجرية. ومعنى قول النبي ﷺ ( ليلني) أي ليدن مني وليقرب مني.
قال الإمام النووي:[وأولو الأحلام هم العقلاء وقيل البالغون و ( النهى ) بضم النون العقول . فعلى قول من يقول: أولو الأحلام العقلاء يكون اللفظان بمعنى – واحد – , فلما اختلف اللفظ عطف أحدهما على الآخر تأكيداً . وعلى الثاني معناه البالغون العقلاء قال أهل اللغة واحدة ( النهى ) نهية بضم النون وهي العقل ورجل ( نهٍ ) و ( نهى ) من قوم نهين, وسمي العقل نهية لأنه ينتهي إلى ما أمر به ولا يتجاوز, وقيل: لأنه ينهى عن القبائح.
قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون النهى مصدراً كالهدى, وأن يكون جمعاً كالظلم, قال: والنهى في اللغة معناه الثبات والحبس. ومنه النهى والنهى بكسر النون وفتحها والنهية للمكان الذي ينتهي إليه الماء فيستنقع.
قال الواحدي: فرجع القولان في اشتقاق النهية إلى قول واحد وهو الحبس فالنهية هي التي تنهى وتحبس عن القبائح .] شرح النووي على صحيح مسلم 2/116.
وقوله ﷺ ( ثم الذين يلونهم) معناه الذين يقربون من أول النهى في هذا الوصف ، وقوله ﷺ (ثم الذين يلونهم) أي كالصبيان المميزين والذين هم أنزل مرتبة من المتقدمين حلماً وعقلاً والمعنى أنه هلم جرا، فالتقدير ثم الذين يلونهم كالنساء … ] كما قاله الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح 3/172.
إذا تقرر هذا فإن المقصود من الحديث هو أن يقف خلف الإمام الرجال العقلاء فهم أولى الناس بالوقوف خلف الإمام في الصلاة فينبغي أن يقدموا على غيرهم لأنه قد يطرأ طارئ على الأمام أثناء الصلاة كأن يحتاج لمن يفتح عليه أو أن يستخلف أو يسهو فيحسن أولو الأحلام والنهى التصرف.
قال الإمام النووي:[في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام لأنه أولى بالإكرام, ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى, ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام على السهو لما لا يتفطن له غيره , وليضبطوا صفة الصلاة , ويحفظوها وينقلوها ويعلموها الناس وليقتدي بأفعالهم من ورائهم ولا يختص هذا التقديم بالصلاة, بل السنة أن يقدم أهل الفضل في كل مجمع إلى الإمام وكبير المجلس كمجالس العلم والقضاء والذكر والمشاورة, ومواقف القتال وإمامة الصلاة والتدريس والإفتاء وإسماع الحديث ونحوها, ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم والدين والعقل والشرف والسن والكفاءة في ذلك الباب, والأحاديث الصحيحة متعاضدة على ذلك] شرح النووي على صحيح مسلم 2/116.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[ السنة أن يتقدم في الصف الأول أولو الفضل والسن ويلي الإمام أكملهم وأفضلهم، قال أحمد: يلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن وتؤخر الصبيان والغلمان ولا يلون الإمام ] المغني 2/160.
وقال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يكره أن يقوم الناس في المسجد خلف الإمام إلا من قد احتلم أو أنبت أو بلغ خمس عشرة سنة. فقلت له: ابن اثنتي عشرة سنة أو نحوها، قال:ما أدري. قلت له: فكأنك تكره ما دون هذا السن، قال: ما أدري، فذكرت له حديث أنس واليتيم. فقال: ذاك في التطوع.
ولا يدل الحديث السابق على منع الصبيان من الوقوف في الصف الأول ولكنه يدل على أنهم لا يقفون خلف الإمام مباشرة لأن خلف الإمام لأولي الأحلام والنهى كما في الحديث، وأما الصبيان فلهم أن يصفوا في أطراف الصف الأول، ذات اليمين وذات الشمال، وفيما يليه من الصفوف.
ولا ينبغي طرد الصبيان من الصف الأول لأن الصبي إذا سبق للصف الأول فهو أحق به من غيره لما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:( لا يقم أحدكم أخاه من مجلسه ثم يجلس فيه) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، فإن الحديث بعمومه يدخل فيه الصبي.
قال الشيخ ابن مفلح الحنبلي:[ليس له تأخير الصبيان السابقين ، وهو مذهب الشافعية وصوبه في الإنصاف، فإن الصبي إذا عقل القرب كالبالغ في الجملة، والحديثان (من سبق إلي مكان فهو أحق به) (ولا يقيم أحدكم أخاه من مجلسه) ولو كان تأخيرهم أمراً مشهوراً لاستمر العمل عليه ، ولنقل نقلاً لا يحتمل الاختلاف.]. الفروع.
وينبغي أن يعلم أن بعض الفقهاء يرى أن الصفوف في صلاة الجماعة تكون بالترتيب التالي:الرجال أولاً ثم الصبيان ثانياً ثم النساء ثالثاً، لما ورد في الحديث عن عبد الرحمن بن غنم قال: قال أبو مالك الأشعري رضي الله عنه: ألا أحدثكم بصلاة النبي ﷺ؟ قال فأقام الصلاة وصف الرجال وصف خلفهم الغلمان ثم صلى بهم فذكر صلاته) رواه أبو داود.
وفي رواية في مسند أحمد (أن أبا مالك الأشعري رضي الله عنه جمع قومه فقال يا معشر الأشعريين اجتمعوا واجمعوا نساءكم وأبناءكم أعلمكم صلاة النبي ﷺ صلى لنا بالمدينة فاجتمعوا وجمعوا نساءهم وأبناءهم فتوضأ وأراهم كيف يتوضأ فأحصى الوضوء إلى أماكنه حتى لما أن فاء الفيء وانكسر الظل قام فأذن فصف الرجال في أدنى الصف وصف الولدان خلفهم وصف النساء خلف الولدان ثم أقام الصلاة … ) ولكن الحديث ضعيف كما قال العلامة الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح 1/348.
ومن الفقهاء من يرى أن الصبيان لا ينفردون في صف خاص بهم بل يقفون بين الرجال فيقف صبي بين كل رجلين، [يستحب أن يقف بين كل رجلين صبى ليتعلموا منهم أفعال الصلاة] المجموع 4/293، وهذا القول أرجح قولي الفقهاء في المسألة قال الإمام البخاري في صحيحه [ باب صفوف الصبيان مع الرجال في الجنائز].
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ قوله : (باب صفوف الصبيان مع الرجال في الجنائز) … وذكر فيه طرفاً من حديث ابن عباس المذكور , وكان ابن عباس في زمن النبي ﷺ دون البلوغ لأنه شهد حجة الوداع وقد قارب الاحتلام …] فتح الباري 3/242.
وقال الإمام البخاري في صحيحه أيضاً [باب صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز] ثم ذكر الحديث.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ مر بقبر قد دفن ليلاً فقال متى دفن هذا قالوا البارحة قال أفلا آذنتموني قالوا دفناه في ظلمة الليل فكرهنا أن نوقظك فقام فصففنا خلفه قال ابن عباس وأنا فيهم فصلى عليه(وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني [ قوله : (باب صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز) … قال ابن رشيد : أفاد بالترجمة الأولى بيان كيفية وقوف الصبيان مع الرجال وأنهم يصفون معهم لا يتأخرون عنهم , لقوله في الحديث الذي ساقه فيها ” وأنا فيهم ” ] فتح الباري 3/253.
وقد رجح العلامة محمد بن صالح العثيمين هذا القول وبين المحذور من تأخير الصبيان عن الصف الأول فقال:
[لو قلنا بإزاحة الصبيان عن المكان الفاضل وجعلناهم في مكان واحد أدى ذلك إلى لعبهم لأنهم ينفردون بالصف ، ثم هنا مشكل إذا دخل الرجال بعد أن صف الجماعة هل يرجعونهم وهم في الصلاة ؟ وإن بقوا صفاً كاملاً فسيشوشون على من خلفهم من الرجال ثم إن تأخيرهم عن الصف الأول بعد أن كانوا فيه يؤدي إلى محذورين : الأول : كراهة الصبي للمسجد لأن الصبي وإن كان صبياً لا تحتقره، فالشيء ينطبع في ذهنه. المحذور الثاني:كراهته للرجل الذي أخره عن الصف ، فالحاصل أن هذا القول ضعيف – أي القول بتأخير الصبيان عن أماكنهم – ] الشرح الممتع 321.
وخلاصة الأمرأنه يجوز للصبيان أن يقفوا في الصف الأول، ولكنهم لا يقفون خلف الإمام مباشرة لأن ذاك مقام أولو الأحلام والنهى ولا ينبغي جمع الصبيان في صف واحد خلف الرجال لما يترتب على ذلك من التشويش.