الكلام هنا في ثلاث نقاط: في معنى السيد ومن يُطلق عليه، وفي حكم هذا الإطلاق، وفي إطلاقه على النبي ﷺ.
أولا: جاء في النهاية لابن الأثير ” مادة سود ” أن السيد يُطْلَق على الرَّب والمالِك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومتحمِّل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدَّم . وأصله مِن ساد يسود فهو سَيْوِد، فقُلِبَت الواو ياءً لأجل الياء الساكنة قبلها ثم أُدْغِمَت. فهو يُطْلَق على الإنسان بالمعنى الذي يناسبه من هذه المعاني، بل إنه يُطْلَق على غير الإنسان، كما قال ابن الأثير ” ثَنِىُّ الضأن خيرٌ من السَّيِّد من المَعْز ” أي المُسِن وقيل الجليل وإن لم يكن مُسنًّا .
أ ـ فقد أُطْلِقَ على الأنبياء كما قال تعالى عن يحيى بن زكريّا ( وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحِين ) ( آل عمران : 39 ) وجاء في النهاية لابن الأثير : قالوا : يا رسول الله من السَّيِّد؟ قال : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام .
ب ـ وأُطْلِقَ على بعض الصحابة، حيث قال النبي ـ ﷺ ـ في أبي بكر وعمر ” هذان سيِّدَا كُهولِ أهلِ الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين ” رواه الترمذي وغيره ( تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 32 ) . وقال عن الحسن والحسين ” إنهما سيِّدا شباب أهل الجنة ” أخرجه الترمذي والحاكم . بل قال في الحسن ” إن ابني هذا سيِّد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ” رواه البخاري ( المرجع السابق ص 126 ) .
وجاء في النهاية أنه قال في سعد بن عبادة ” انظروا إلى سَيِّدكم ” وفي وراية للخطابي ” انظروا إلى سيِّدنا هذا ما يقول ” وقال للأنصار، وقد أقبل عليهم سعد بن معاذ ” قُوموا إلى سيِّدكم ” رواه البخاري، وقد فَهِمَ بعضهم أنها سيادة على المهاجرين والأنصار معًا، وعندها قال عمر : السيِّد هو الله، كما في حديث عائشة عند أحمد ( الزرقاني على المواهب ج 2 ص134 ) وقال للأنصار ” من سَيِّدكم “؟ قالوا الجَد بن قيس، كما في النهاية، وأطلق بعض الصحابة على بعضهم اسم السيد، فقد أخرج الترمذي والحاكم عن عمر قال : أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله . ( تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 31 ) وكل ذلك في مقام التكريم والتشريف، وبمعنى الرئاسة والتقدُّم والمسئولية أيًّا كان حَجْمهَا ونوعها، ففي النهاية أيضاً حديث ” كلُّ بَنِي آدم سيد، فالرجل سيِّد أهل بيته، والمرأة سيدةُ أهل بيتها ” قال الذهبي رواته ثقاة، وهو يلتقي مع الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم ” كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها … .
ج ـ وأُطْلِقَ السيدُ على المالِك للرَّقِيق وغيره، والنصوص في ذلك كثيرة، ومنه حديث ” والخادم راعٍ في مال سيده ومسئولٌ عن رعيته ” كما أُطْلِقَ على الزَّوْجِ، وفي القرآن عن امرأة العزيز ( وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ) ( يوسف : 25 ) وفي النهاية : قول عائشة عن الخِضَاب : كان سيدي رسول الله يكره ريحه، وحديث أم الدرداء : حدثني سيدي أبو الدرداء.
ثانيا : هذه الإطلاقات جائزةٌ فقد أطلقها الله على يحيى، وأطْلَقَها النبي ـ ﷺ ـ، كما أطلقها الصحابة والخلفاء الراشدون، ولم يُنْكِر عليهم أحدٌ .
وقول عمر بشأن سعد بن معاذ ليس نقضًا لقول النبي ـ ﷺ ـ عنه، بل هو لمنع استغلال هذا اللقب في إثارة العصبية بين المهاجرين والأنصار، فهو نفسه قد أطلقه على أبي بكر كما تقدَّم .
ولما كان إطلاق اسم السيد على الإنسان فيه معنى التكريم، نهى النبي ـ ﷺ ـ عن إطلاقه على من لا يَسْتَحِقه . فقد روى أبو داود بإسناد صحيح ” رياض الصالحين ص 624 ” أنه قال ” لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يكن سيدًا فقد أسخطتم ربكم عز وجل ” وهو توجيه لنا في الدِّقة عند إطلاق الأسماء والألقاب وفي كل شيء .
ثالثا : وإطلاق السيد على النبي ـ ﷺ ـ جائز، بل هو أدب وتكريم وليس ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأقل قدرًا وشرَفًا ممن أُطْلِق عليهم هذا اللقب من الأنبياء والصحابة وغيرهم . ومما يُثبت ذلك:
أ ـ قوله ” أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ” رواه مسلم . قال ذلك امتثالاً لأمر ربه في قوله ” وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ” آخر سورة الضحى، ومن أجل التبليغ عن مكانته، لا يريد بذلك فخرًا، فهو المعروف بتواضعه . ولذلك جاء في بعض الروايات قوله ” ولا فَخْر ” .
ب ـ لما أمر سهل بن حُنيف أن يتعوَّذ من الحُمَّى قال للرسول: يا سيدي. ولم يُنْكِر عليه . رواه أحمد في المسند، والنسائي بسند قوي ( الرد المحكم للمحدث الغماري )
وإذا كانت هناك مَرْويات يَنهى فيها عن إطلاق اسم السَّيِّد عليه فهي إمَّا غير صحيحة، وإما أن يكون المُراد منها عدمُ تفضيله بطريقة تُعطيه فوق ما يستحقه من كونه بشرًا رسولاً، ولعدم استغلال ذلك في إثارة العصبية والفتنة، والنصوص في ذلك كثيرة .
وقد جاء في نهاية ابن الأثير أن رجلاً قال له : أنت سيدُ قريش، فقال ” السيد الله ” أي هو الذي تَحِق له السيادة الكاملة . كأنه كره أن يُحمد في وجهه وأحبَّ التواضع . ولمَّا قالوا له : أنت سيدُنا قال : قولوا بقَوْلِكُم، أي ادعوني نبيًا رسولاً كما سماني الله، ولا تُسمُّوني سيدًا كما تسمون رؤساءكم فإني لست كأحدهم ممن يسودكم في أسباب الدنيا .
هذا وقد شاع بين الناس ترديد هذا القول ” لا تُسَيَّدوني في الصلاة ” وهذا حديث مكذوب لا أصل له في السُّنَّة كما في كتاب : “كشف الخفا ومزيل الإلباس فيما اشتُهر من الحديث على ألسنة الناس” . وفيه غلطٌ لغوي أيضًا؛ لأن مادة السيادة واوية لا يائية، فالصواب ” لا تسوِّدوني ” جاء في نهاية ابن الأثير من حديث قيس بن عاصم ” اتَّقوا الله وسوِّدوا أكبركم ” وفي حديث ابن عمر : ما رأيت بعد رسول الله ـ ﷺ ـ أسود من معاوية، قيل : ولا عمر ؟ قال : كان عمر خيرًا منه، وكان هو أسود من عمر، أي أسخى وأعطى للمال أو أحلم منه . ويقول الشاعر :
وما سودتني عامر عن وراثة أَبى الله أن أسمو بأم ولا أب
فهذا الحديث مردود لفظًا ومعنىً، أو شكلاً وموضوعًا كما يقولون . وأما حكم قول ” سيدنا محمد ” فهو في غير العبادة لا مانع منه أبدًا، بل قيل بندبه لما فيه من التكريم الذي هو أهل له . وأما في الصلاة عند التشهد والصلاة على النبي ـ ﷺ ـ فعند الشافعية الأفضل الإتيان به ـ قال الرملي في شرح المنهاج : والأفضل الإتيان بلفظ السيادة، كما قاله ابن ظهير، وصرَّح به جمع، وبه أفتى الشارح ؛ لأن فيه الإتيان بما أمرنا به وزيادة الإخبار بالواقع الذي هو أدب، فهو أفضل من تَرْكه وإن تردد في أفضليته الإسنوي، وأما حديث ” لا تسيدوني في الصلاة ” فباطل لا أصل له كما قاله بعض متأخري الحُفَّاظ، وقول الطوسي : إنها مبطلة غلط . أ هـ .
وعند الأحناف يُنْدَب الإتيان به في الصلاة على النبي فقط، ويُكتفَى بالوارد في التشهد من غير زيادة ولا نقصان . قال في الدر المختار شرح تنوير الأبصار : وندب السيادة؛ لأن زيادة الإخبار بالواقع عين سلوك الأدب فهو أفضل من تركه . أهـ .
هذا، وقد جرى العُرْفُ بين الناس في أن يُعَظموا ذوي الأقدار بالألقاب والأوصاف التي ترفع شأنهم حتى لو كانوا غير مسلمين، فلماذا نمنع ذلك في تعظيم رسول الله ـ ﷺ ـ وهو خير الناس جميعًا وأفضل الأنبياء والمرسلين ؟ على أن يكون ذلك بالقدر الذي لا يُوقع في محظور .
جاء في الفتاوى الإسلامية ” المجلد السابع ص 2571 ” أنه لا تجوز السيادة في الأذان عند الأئمة الثلاثة، وتجوز عند الشافعي، هذا، والأفضل عند الشافعية الإتيان بالسيادة في التشهد وفي الصلاة على النبي، وفي الأذان وغيره؛ لأن فيها الإتيان بما أُمِرْنَا به وزيادة الإخبار بالواقع الذي هو أدب فهي أفضل من ترْكها وإن تردَّد الإسنَوِي في الأفضلية . ذكره الرَّمْلي في شرح المِنْهاج .