فكرة العقوبة بالسجن معروفة قبل الإسلام، وفي القرآن الكريم ما يدل على أن عزيز مصر كان عنده سِجن ودخله يوسف ـ عليه السلام ـ، ودخل معه فتيان دعاهما إلى توحيد الله “انظر سورة يوسف 36-42 .
وفيه أيضًا أن فرعون الذي أرسل إليه موسى كان له سجن هدده بإدخاله فيه، (قال لئنْ اتَّخَذْتَ إلهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسجُونِينَ) (سورة الشعراء : 29) .
وفكرة السجن موجودة في الإسلام ولم تكن أيام النبي ـ ﷺ ـ بالمعنى المتبادر إلى الذهن من اتخاذ دار خاصة يُوضَع فيها مَن استَحق عقوبة ، ولم تكن كذلك أيام أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ولكن كان هناك “حبس” بمعنى تعويق الشخص ومنْعه من التصرف الحر حتى يَقضِي دَيْنًا وجب عليه ، أو يَرُدَّ حقًّا اغتصبه ، وكان الذي يُلازم المحبوس هو الخصْم أو وكيله ، ولهذا سمّاه النبي ـ ﷺ ـ أسيرًا ، رَوَى أحمد أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ حَبَس في تهمة ، وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي، قال الترمذي: حسن.
وزاد النسائي: ثم خَلَّى عنه .
والحاكم صحَّح هذا الحديث، وله شاهد آخر من حديث أبي هريرة يُقوي حديث بَهْز بن حكيم المذكور، وجاء في حديث أبي هريرة أن الحبس كان يومًا وليلة استظهارًا وطَلبًا لإظهار الحق بالاعتراف .
ورَوَى البيهقي أن عبدًا كان بين رجلين فأعتَق أحدهما نصيبه، فحبسه النبي ـ ﷺ ـ حتى يُباع غنيمة له، وهذا الحديث وإن كان فيه انقطاع فإنه رُوِي من طريق أخرى عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا .
والبخاري في صحيحه جعل بابًا بعنوان ” باب الرَّبْط والحَبْس في الحَرَم” ، قال ابن حجر في شرح البخاري “فتح الباري” : كأنه أشار بهذا التبويب إلى رَدِّ ما نُقِل عن طاوس أنه كان يَكرَه السجن بمكة ويقول : لا يَنبغِي لِبَيْتِ عذابٍ أن يكون في بيت رحمة .
ويقال إن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ هو أول من اتَّخذ دارًا للسجن في مكة ، اشتراها من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم ، وكان ذلك بمعرفة عامله على مكة نافع بن عبد الحارث الخزاعي .
وقيل: إن أول من اتخذ دارًا للسجن هو معاوية بن أبي سفيان ، كما ذكره المقريزي “الخطط” .
وكان القاضي شريح هو أول من حَبَسَ في الدَّيْن .
ومن وقائع الحبس أيام عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه حبس الحُطيئة الشاعر الهجّاء لتطاوله على ابن بدر ، عامل عمر ، أو هَدَّده بالحبس حتى تَضَرع له بقصيدة معروفة منها قوله :
ماذا تقول لأفراخٍ بِذِي مَرَخٍ *** زُغْبِ الحواصِلِ لا ماءٌ ولا شَجَرٌ
ألْقيْتَ كاسِبَهمْ في قعْرِ مُظْلِمَةٍ *** فاغْفِرْ عليْـكَ سلامُ اللهِ يا عُـمَرُ
فعفا عمر بن الخطاب عنه .
وكذلك حبس أبا مِحجَن الثقفي ، لمّا جَلَدَه على السُّكْر ونَفَاه إلى جزيرة في البحر فهرب من الرجل الذي كان يَصحبه ، ولحق بسعد بن أبي وقاص وهو يُحارِب ، فكتب عمر إلى سعد أن يَحبِسه ، وبعد نفْيه إلى رابغ وهروبه منها قُبِض عليه وسُجِن قرب القادسية أسفل قصر الإمارة ، وتوسَّل إلى سلمى بنت حفصة زوجة سعد فأطلقتْه واشترك في الحرب وأبلي بلاءً حسنًا ثم عاد إلى القَيْد ، وفي النهاية أفرج عنه بعد توبته .
وأيضًا مَعْن بن زائدة ، أمر المغيرة بن شعبة بحبسه في حادث تزوير في أوراق رسمية ، ولما هَرب من السجن عاد إلى عمر تائبًا وفي النهاية عَفَا عنه .
وعثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أقَرَّ عقوبة الحبس ، ومن سجنائه جنائي بن الحارث الذي هجا بني جَرْوَلٍ .
ويُلاحظ أنه لم يكن له مكان خاص، بل كان يُسجَن أحيانًا في السجن ودهاليز البيوت .
وأما علي بن أبي طالب فيقال : إنه حَبَسَ الغاصِب وآكِل مال اليتيم ظلمًا والخائن في الأمانة ، وخصَّص للسجن مكانًا ، وكان أولاً من أعواد القصب ثم بنى غيره مُحكَمًا ، ويقول البلاذري والمسعودي : إن معاوية أرْبَى على الخلفاء في إعداده السجون والاهتمام بها .
ومن أنواع السجون النفْي ، لأنه فصْل عن المجتمع الذي كان يعيش فيه المنْفِيُّ، ومنه قوله تعالى في جزاء المحاربين المفسدين (أو يُنْفَوا مِنَ الأرْضِ) (سورة المائدة : 33) .
وقد قرَّر الفقهاء إيقاع الحبس على المشترك في جِنَاية حتى يُفصل فيها ، وكذلك أجازوا التعزير للردع وللديون حتى تُرَدَّ ، وللتأديب الذي يَراه الحاكم ، فالسجن الموجود الآن نوع من التعزيرات التي لم تُحدَّد في الإسلام لا كمًّا ولا كيفًا ، بل تُرِكَ أمرها إلى القاضي ليُقرِّر ما يراه مناسِبًا للجريمة أو المخالفة بوجه عام .
ونظرًا لبعض المعاملات القاسية التي تُتَّخذ مع المسجونين الآن ، رأى بعض العلماء عدم جوازه ، رجوعًا إلى عهد النبي ـ ﷺ ـ وخليفته أبي بكر ، مع استبدال إجراءات أخرى به تضمن رد الحقوق إلى أصحابها ، ومنع الضرر عن الناس .
هذا، وقد تطورت السجون في التشريعات الحديثة لدى بعض الدول ، فجُعلت كمؤسسة تربوية ، يُعامل فيها المسجون كمريض تُدرس أحواله ، ويُعالج بطرق خاصة ، لتَجعَل منه مواطنًا صالحًا بعد الانتهاء من مدة احتجازه .
والشوكاني في “نيل الأوطار” يقول بعد بحث الموضوع : ” والحاصل أن الحبس وقع في زمن النبوة وفي أيام الصحابة والتابعين فمَن بعدهم إلى الآن في جميع الأعصار والأمصار، من دون إنكار . وفيه من المصالح ما لا يَخفَى…”
وأخذ يُعدِّد هذه المصالح إلى أن قال : وقد استدل البخاري على جواز الرَّبط بما وَقَع منه ـ ﷺ ـ من ربط ثُمَامة بن أَثَال بساريَةٍ من سواري مسجده الشريف، كما في القصة المشهورة في الصحيح.