قضية التماثيل ينبغي أن تدرس في ضوء النقاط الآتية :ـ
أولاً: إنّ أصل صناعة التّماثيل وبيعها وشراءها واقتناءها يدخل في نطاق الأعمال المباحة بناءً على القاعدة الأصوليّة المعروفة أنّ الأصل في الأشياء الإباحة، وأنّ التّحريم يطرأ عليها إذا دخلها وصف يقتضي التّحريم.
ثانياً: إذا كانت التّماثيل للعبادة فهي نوع من الشّرك بالله. ولذلك يكون صنعها وبيعها وشراؤها واقتناؤها حراماً ويعتبر من الكبائر لأنّ النصوص الواردة في ذلك قرنت التّحريم بالعذاب الشّديد.
ثالثاً: إذا كانت التّماثيل المصنوعة مضاهاة لخلق الله، أو تشبّهاً بخلق الله، فذلك يجعلها حراماً وتعتبر من الكبائر وفق الأحاديث الصّحيحة الواردة.
لكنّ التّشبّه بخلق الله ومضاهاته يمكن أن يكون في صنع تماثيل ما لا روح له كالشّمس والقمر والجبال والشّجر، وفي صنع لعب البنات وغير ذلك ممّا ورد النّص بإباحته صراحة، ولذلك قال بعض العلماء أنّ المقصود هنا من يصنع التّمثال أو يرسم الصّورة تحدّياً لقدرة الله، ومن يعتقد أنّه قادر على أن يخلق كخلق الله، فيريه الله تعالى عجزه يوم القيامة بأن يكلّفه أن ينفخ الرّوح في تلك الصّورة.
وتأييداً لهذا القول فسّر ابن حجر – في فتح الباري– قول الله عزّ وجلّ في حديثه القدسيّ (ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقاً كخلقي) فسّر ذهب بمعنى قصد. (ورد ذلك في الموسوعة الفقهيّة مادّة تصوير). وعلى هذا القول فإنّ الحرام هنا يتعلّق بنيّة الصّانع ولو كان المصنوع تمثالاً لجماد أو رسماً يدويّاً لأيّة صورة.
رابعاً: إذا كانت التّماثيل المصنوعة – أو الصّور المسطّحة- وسيلة لتعظيم غير الله والغلو في ذلك بحيث يمكن أن يؤول الأمر إلى نوع من التّقديس والعبادة، فإنّها تصبح حراماً من باب سدّ الذّرائع. وهو أصل متّفق عليه بين العلماء ويؤيّد ذلك في هذه المسألة ما ورد في صحيح البخاري وفي أكثر التّفاسير عن ( ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر ) أنّها ( أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلمّا هلكوا أوحى الشّيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصاباً، وسمّوها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد. حتّى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.)
لكنّ العلماء الذين اعتمدوا مبدأ سد الذّريعة في هذه المسألة اختلفوا بين متشدّد وصل إلى التّحريم المطلق لكلّ تمثال أو صورة ثمّ بدأ يستثني من ذلك ما ورد في النّصوص ويضيقه ما استطاع. وبين متوسّط منع التّماثيل المنصوبة وسمح بغير المنصوب، أو سمح بالصّور المسطّحة التي لا ظلّ لها، أو سمح بالتّماثيل والصّور لما لا روح له.
خامساً: إذا خلت التّماثيل- وكذلك الصّور المسطّحة- من معاني العبادة أو التّعظيم أو المضاهاة لخلق الله. فإنّها تبقى على أصل الإباحة حتى ولو لم يكن من ورائها تحقيق أيّة مصلحة مشروعة. فإذا وجدت بعض المصالح المشروعة، فإنّ الإباحة قد ترتفع إلى شيء من الاستحباب. كما لو تعلّق الأمر بصناعة لعب الأطفال، فقد أجازها العلماء من المذاهب الأربعة – وإن وضع الحنابلة لها شروطاً- ولم يشترط غيرهم أي شرط لذلك. وقد علّل كثير من الفقهاء إباحة لعب البنات بالحاجة لتدريبهنّ على تربية الأولاد، وهو تعليل مستنبط ونصّ الحديث لا يقبله فقد تحدّثت عائشة عن (فرس له جناحان) فما علاقة هذه اللعبة بتربية الأولاد؟ ولذلك علّل الحليمي إباحة لعب الأطفال بما يحصل لهم من (الاستئناس الذي في الصّبيان من معادن النّشوء والنّموّ، فإنّ الصّبيّ إن كان أنعم حالاً وأطيب نفساً وأشرح صدراً كان أقوى وأحسن نموًّا، وذلك لأنّ السّرور بسط للقلب، وفي انبساطه انبساط للرّوح…) الموسوعة الفقهيّة-الكويت-مادّة تصوير.
وواضح أنّ تعليل الفقهاء بالحاجة لتدريب البنات على تربية الأولاد. يجعل رخصة الألعاب خاصّة بالبنات دون الصّبيان، وهو أمر مستغرب. أمّا تعليل الحليمي، وهو فرح الأولاد واستئناسهم وانشراح صدورهم فهو يجعل الرّخصة شاملة للذّكور والإناث، وهو ما رجّحه الدّكتور عبد الكريم زيدان ( المفصل في أحكام المرأة-3/461).
ونحن نرى أنّ إباحة لعب البنات لا تحتاج إلى تعليل لأنّها رجوع إلى الأصل وهو الإباحة، لأنّ التّحريم يكون حين توجد أسبابه وهي العبادة، أو التّعظيم الذي قد يؤدّي للعبادة، أو المضاهاة لخلق الله، فإذا لم يوجد أيّ من هذه الأسباب عاد الأمر إلى الإباحة.
سادساً: إذا كانت التّماثيل المصنوعة تحقّق مصلحة مشروعة كما لو كانت للتّعليم أو التّدريب، وهذه أصبحت اليوم كثيرة كالتّماثيل التي تستخدم كوسائل إيضاح في المدارس، وتساعد الطّالب على فهم علوم الإنسان أو الحيوان أو النّبات، فإنّها أيضاً ترتفع من الإباحة إلى الاستحباب، وربّما كانت واجبة في بعض الحالات إذا أصبحت وسيلة فعّالة لفهم العلوم والتّقدّم فيها. ومعلوم أنّ طلب العلم فريضة، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.