لا نستغرب الموقف السلبيَّ لعلماء سَلفِنا من عدم تعويلهم على الحساب الفلكي في ثبوت الشهر القمري في هذا الموضوع، بل إننا لو كنا في عصرهم لقلنا بقولهم، ولكنّنا نستغرب كلّ الاستغراب موقف السلبيين من رجال الشريعة في هذا العصر، الذي ارتاد علماؤه آفاق الفَضاء الكوني، وأصبح أصغرُ إنجازاتهم النزولَ على القمر، ثم وضع أقمار صناعية في مدارات فلكية محدَّدة حول الأرض، لأغراض شتَّى علميةٍ وغيرها، ثم القيام برحلات فضائية متنوعة الأهداف، والخروج من مراكبها للسياحة في الفضاء خارج الغِلاف الجوي الذي يُغلِّف الأرض، وخارج نطاق الجاذبية الأرضية، ثم سحب بعض الأقمار الصناعية الدوّارة لإصلاح ما يطرأ عليها من اختلال وهي في الفضاء!!
إننا على يقين أن علماء سلفنا الأولين الذين لم يَقْبَلُوا اعتماد الحساب الفلكي للأسباب التي سنذكرها قريبًا (نقلاً عنهم) لو أنَّهم وجدوا اليوم في عصرنا هذا وشاهدوا ما وصل إليه عِلمُ الفلك من تطوُّر وضبط مُذْهِل لَغيَّروا رأيهم؛ فإن الله قد آتاهم من سَعة الأفق الفكري في فَهم مقاصد الشريعة ما لم يُؤْتَ مِثْلُه أتباعَهم المُتأخِّرين!!
فإذا كان الرصد الفلكي وحساباته في الزمن الماضي، لم يكن له من الدقة والصدق ما يكفي للثقة به والتعويل عليه، فهل يصح أن ينسحب ذلك الحكم عليه إلى يومنا هذا؟
ولعل قائلاً يقول: إن عدم قبول الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية، ليس سببه الشكَّ في صحة الحساب الفلكي ودقته، وإنما سببه أن الشريعة الإسلامية، بلسان رسولها ـ ﷺ ـ، قد ربطت ميلاد الأهِلّة وحلول الشهور القمرية بالرؤية البصرية، وذلك بقوله ـ ﷺ ـ في حديثة الثابت عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما: “صُوموا لِرؤيتِه ـ أي: الهلال ـ وأفطروا لرؤيته، فإذا غُمَّ عليكم فاقْدِروا له “.
وفي رواية ثابتة أيضًا: “فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين”.
وقد أخرج هذا الحديث البخاري وسلم . وفي رواية لمسلم: “فإن غُمَّ عليكم فاقْدِروا ثلاثين”، وهي تفسير لمعنى التقدير المطلق الوارد في الرواية الأولى.
وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه: “إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا “.
فجميع الروايات الواردة عن النبي ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ في هذا الشأن قد رُبط فيها الصوم والإفطار برؤية الهلال الجديد. وإن القَدْر أو التَّقدير عندما تمتنع الرؤية البصرية لعارِض يحجبها من غَيْم أو ضباب أو مانع آخر، معناه: إكمال الشهر القائم ـ شعبان أو رمضان ـ ثلاثين يومًا، فلا يُحكَم بأنه تِسعٌ وعشرون إلا بالرؤية.وهذا من شؤون العبادات التي تُبْنَى فيها الأحكام على النص تعبُّدًا دون نظر إلى العلل، ولا إعمال للأَقيِسة.
هذه حُجّة مَن لا يقبلون الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية، ولو بلغ الحساب الفلكيُّ من الصحة والدقة مبلغَ اليقين بتقدم علمه ووسائله.
ونقول نحن بدورنا: إن كلّ ذلك مسلَّم به لدينا، وهو معروف في قواعد الشريعة وأصول فقهها بشأن العبادات، ولا مجال للجدل فيه، ولكنه مفروض في النصوص التي تُلقى إلينا مطلقة غير معلَّلة، فإذا ورد النص نفسه معللاً بعلة جاءت معه من مصدره، فإنَّ الأمر حينئذٍ يختلِف، ويكون للعلة تأثيرُها في فَهم النَّصِّ، وارتباط الحكم بها وجودًا وعدمًا في التطبيق، ولو كان الموضوع من صميم العبادات . ولكي تتضحَ لنا الرؤية الصحيحة في الموضوع نقول:
إن هذا الحديث النبوي الشريف الآنِفَ الذِّكرِ ليس هو النَّصَّ الوحيدَ في الموضوع، بل هناك روايات أخرى ثابتة عن الرسول ـ ﷺ ـ توضح علّة أمره باعتماد رؤية الهلال البصرية للعلم بحلول الشهر الجديد؛ الذي نِيطتْ به التكاليفُ والأحكام، من صيام وغيره.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أم سلمة ـ رَضِيَ الله عنها في كتاب الصيام (باب: الصوم لرؤية الهلال) أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: “إن الشَّهر يكونُ تسعةً وعشرين يومًا .
وأخرج ـ أيضًا ـ بعده عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ ﷺ ـ قال: ” إنا أمةٌ أُمِّيَّة لا نَكتُب ولا نحسِب، الشهرُ هكذا وهكذا، وعَقَدَ الإبهامَ في الثالثة (أي طَواه) والشَّهْرُ هكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين” أ.هـ.
ومُفاد هذا الحديث أنه ـ ﷺ ـ أشار (أولاً) بكلتا يديه وبأصابعه العشرِ ثلاثَ مراتٍ، وطوى في الثالثة إبهامَه على راحته لتبقَى الأصابِع فيها تسعًا، لإفادة أن الشَّهر قد يكون تسعةً وعشرين يومًا، ثم كرَّر الإشارةَ ذاتَها .
(ثانيًا) دون أن يطويَ في المرة الثالثة شيئًا من أصابعه العشر؛ ليفيدَ أن الشهر قد يكون ـ أيضًا ـ ثلاثين يومًا، أي: أنه يكون تارةً تسعًا وعشرين، وتارة ثلاثين.
هكذا نقل النسائي تفسير هذا الحديث عن شعبة عن جبلة بن سُحيم عن ابن عمر. (رواه النسائي بشرح السيوطي، وحاشية السندي ج4 ص /138 و 140).
وكذلك ليس هذا هو كل شيء من الروايات الواردة في هذا الموضوع، فالرواية التي أكملت الصورة، وأوضحت العلّة، فارتبطت أجزاء ما ورد عن الرسول ـ ﷺ ـ في هذا الشأن بعضُها ببعض، هي ما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي (واللفظ للبخاري)، أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: “إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا” يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين، وكلهم أوردوا ذلك في كتاب الصوم. وقد أخرجه أحمد عن ابن عمر.
فهذا الحديث النبوي هو عماد الخيمة، وبيت القصيد في موضوعنا هذا، فقد علَّل رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ أمرَه باعتماد رُؤية الهلال رؤيةً بصرية لبدء الصوم والإفطار بأنه من أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ لا تكتب ولا تحسب، فما من سبيل لديها لمعرفة حلول الشهر ونهايته إلا رؤية الهلال الجديد، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين وتارة ثلاثين. وهذا ما فَهِمَه شُرّاح الحديث من هذا النَّصِّ.
قال الحافظ ابن حجر في فَتْح الباري (ج 4/ 127): “لا نكتب ولا نحسب” (بالنون فيهما)، والمراد أهل الإسلام الذين بحضرتِه في تلك المَقالة، وهو محمول على أكثرهم؛ لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة .
والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرِفون من ذلك أيضًا إلا النَّزْر اليسير، فعَلَّق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في مُعاناة حساب التَّسيِير..)(2)
والعيني في “عمدة القاري” قد علَّل تعليق الشارع الصوم بالرؤية أيضًا بعلة رَفْع الحَرَج في مُعاناة حساب التسيير كما نقلناه عن ابن حجر. ونقل العيني عن ابن بطّال في هذا المقام قوله: “لم نكلَّف في تعريف مواقيت صومِنا، ولا عباداتِنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، إنما رُبِطَتْ عِبادتنا بأعلام واضحة، وأُمور ظاهرة يستوي في معرفة ذلك الحُسَّاب وغيرهم”.
وذكر القسطلاني في “إرشاد الساري شرح البخاري” ( ج 3 ص 359) مثل ما قال ابن بطال:
وقال السندي في “حاشيته على سنن النسائي” يشرح كلمة (أمية) الواردة في الحديث بقوله: “أمية في عدم معرفة الكتابة والحساب، فلذلك ما كلَّفَنا الله ـ تعالى ـ بحساب أهل النُّجوم، ولا بالشهور الشمسيّة الخَفِيّة، بل كلَّفنا بالشهور القمرية الجلية..” (سنن النسائي بشرح السيوطي ج 4/140).
وواضح من هذا أن الأمر باعتماد رؤية الهلال ليس لأن رؤيتَه هي في ذاتها عبادة، أو أن فيها معنى التَّعبد؛ بل لأنها هي الوسيلة الممكِنة الميسورة إذ ذاك، لمعرفة بدء الشهر القمري ونهايته لمن يكونون كذلك، أي: أميين لا علم لهم بالكتابة والحساب الفلكي.
ولازم هذا المُفاد من مفهوم النَّصِّ الشرعيِّ نفسه أنَّ الرسول ـ ﷺ ـ، وقومَه العربَ، إذْ ذاك، لو كانوا من أهل العلم بالكتاب والحساب بحيث يستطيعون أن يَرصُدوا الأجرام الفلكية، ويَضبِطوا بالكتاب والحساب دوراتِها المنتظمة التي نظمتها قدرة الله العليم القدير بصورة لا تختلُّ، ولا تتخلَّف، ولا تختلِف، حتى يعرفوا مسبقًا بالحساب متى يُهَلُّ بالهلال الجديد، فينتهي الشهر السابق ويبدأ اللاحق ـ لأمكنهم اعتماد الحسابِ الفلكي. وكذا كل مَنْ يَصِلُ لديهم هذا العلم من الدقة والانضباط إلى الدرجة التي يوثَق بها، ويطمَأن إلى صحّتها.
هذا ـ حينئذٍ، ولا شكَّ ـ أوثقُ وأضبط في إثبات الهلال من الاعتماد على شاهدين ليسا معصومَيْن من الوهم وخداع البصر، ولا من الكذب لغرض أو مصلحة شخصية مَستورة، مهما تحرَّينا للتحقُّق من عدالتهما الظاهرة التي توحِي بصدقهما، وكذلك هو ـ أي: طريق الحساب الفلكي ـ أوثقُ وأضبط من الاعتماد على شاهد واحد عندما يكون الجوُ غير صاحٍ، والرؤية عسيرةٌ، كما عليه بعض المذاهب المعتبرة في هذه الحال.
وقد وُجِدَ مِن علماء السلف ـ حين كان الحساب الفلكي في حاله القديمة غير منضبط ـ مَن قال: إن العالم بالحساب يعمل به لنفسه، قال بهذا مطرف بن عبد الله من التابعين، ونقله عنه الحطاب من المالكية في كتابه “مواهب الجليل” (2/288) ونقل العلامة العيني الحنفي في كتابه “عمدة القاري شرح صحيح البخاري” عن بعض الحنفية أنه: لا بأس بالاعتماد على قول المنجِّمين (يقصد بهم علماء الحساب الفلكي كما سبق بيانه) وذكر ذلك العلامة ابن عابدين أيضًا في رسائله (1/244).
وقال القشيريُّ: إذا دلَّ الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يُرى لولا وجود المانع كالغَيم مثلاً، فهذا يقتضِي الوجوبَ لوجود السَّبَبِ الشَّرْعِي، وأن حقيقة الرؤية ليست مشروطة في اللزوم، فقد اتفقوا على أن المحبوس في المطمورة إذا عَلِمَ بإتمام العِدة، أو بطريق الاجتهاد أنَّ اليوم من رمضان وَجَبَ عليه الصَّوم. أ.هـ (ينظر: عمدة القاري ج 10/9272).
ونقل القليوبي من الشافعية عن العبادي قوله: “إذا دلَّ الحساب القطعي على عدم رؤية الهلال لم يُقبل قول العدول برؤيته، وتُرَدُّ شهادتُهم ” ثم قال القليوبي: هذا ظاهر جلي، ولا يجوز الصوم حينئذٍ، وإن مخالفة ذلك معاندة ومُكابَرة ” (القليوبي 2/49).
(ولينظر في ذلك كله الموسوعة الفقهية الصادرة في الكويت ـ كلمة: رؤية الهلال ج22 /ص: 34).
وواضح أيضًا لكل ذي علم وفَهم أنَّ أمرَ الرسول ـ ﷺ ـ بإتمام الشهر القائم ثلاثين حين يغمُّ علينا الهلالَ ـ بسبب ما ـ حاجبٌ للرؤية من غيم أو ضباب أو غيرهما، ليس معناه أن الشهر القائم يكون في الواقع ثلاثين يومًا، بل قد يكون الهلال الجديد متولِّدًا وقابلاً للرؤية لو كان الجو صحوًا، وحينئذ: يكون اليوم التالي الذي اعتبرناه يوم الثلاثين الأخير من الشهر هو في الواقع أول يوم من الشهر الجديد الذي علينا أن نصومه أو نفطرَ فيه، ولكن لأننا لا نستطيع معرفة ذلك من طريق الرؤية البصرية التي حجبت، ولا نملك وسيلة سواها، فإننا نكون معذورين شرعًا إذا أتممْنا شعبان ثلاثين يومًا وكان هو في الواقع تسعة وعشرين، فلم نصُم أول يوم من رمضان: إذ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: 286) بنص القرآن العظيم.
هذا تحليل الموضوع وفهمه عقلاً وفقهًا، وليس معنى إتمام الثلاثين حين انحجاب الرؤية أننا بهذا الإتمام نصل إلى معرفة واقع الأمر وحقيقته في نهاية الشهر السابق وبداية اللاحق، وأن نهاية السابق هي يوم الثلاثين.
وما دام من البَدَهِيّات أن رؤية الهلال الجديد ليست في ذاتها عبادة في الإسلام، وإنما هي وسيلة لمعرفة الوقت، وكانت الوسيلة الوحيدة الممكنة في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، وكانت أمِّيّتُها هي العِلّةَ في الأمر بالاعتماد على العين الباصرة، وذلك بنص الحديث النبوي مصدر الحكم، فما الذي يمنع شرعًا أن نعتمد الحساب الفلكي اليقيني، الذي يعرفنا مسبقًا بموعد حلول الشهر الجديد، ولا يمكن أن يحجب عِلْمَنا حينئذ غيم ولا ضباب إلا ضباب العقول؟!
سبب رفض العلماء المتقدمين لاعتماد الحساب الفلكي في ثبوت الشهر:
من المسلَّم به أن الفقهاء وشُرّاح الحديث يرفضون التعويل على الحساب لمعرفة بدايات الشهور القمرية ونهايتها للصيام والإفطار، ويُقرِّرون أن الشرع لم يُكلِّفْنا في مواقيت الصوم والعبادة بمعرفة حساب ولا كتابة، وإنما رَبَط التكليفَ في كل ذلك بعلامات واضحةٍ يستوي في معرفتها الكاتبون والحاسبون وغيرهم، كما نقلناه سابقًا عن العيني والقسطلاني وابن بطال والسندي وسواهم . وإن الحكمة في هذا واضحة لاستمرار إمكان تطبيق الشريعة في كل زمان ومكان.
ولكن يحسُن أن ننقل تعليلاتِهم لهذا الرفض ليتبين سببه ومبناه، مما يظهر ارتباطه بما كانت عليه الحال في الماضي، ولا ينطبق على ما أصبح عليه أمر علم الفلك وحسابه في عصرنا هذا.
فقد نقل ابن حجر أيضًا عن ابن بزيزة أن اعتبار الحساب هو “مذهب باطل، فقد نهَت الشريعة عن الخوض في علم النجوم؛ لأنه حدْس وتخمين، وليس فيه قطع ولا ظنٌّ غالب”.
ويظهر من كلام ابن حجر وابن بزيزة أن العلة في عدم اعتماد الحساب هي أن هذا العلم في ذاك الزَّمن مجرد حَدْس وتَخْمينٍ لا قطعَ فيه، وأن نتائِجه مختلفة بين أهله فيُؤدِّي ذلك إلى الاختلاف والنِّزاع بين المكلفين.
ونقل الزرقاني في شرحه على الموطأ (ج2 ص /154) عن النووي قوله” “إن عدم البِناء على حِساب المنجِّمين لأنَّه حدْس وتخْمين، وإنما يعتبر منه ما يُعْرَفُ به القِبلةُ والوَقْت ” أ.هـ. أي: أن مواقيتَ الصلاة فقط يُعتبر فيها الحساب .
وذكر ابن بطال ما يؤيد ذلك، فقال: “وهذا الحديث ـ أي: حديث “لا نكتب ولا نحسب” ـ ناسخ لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المُعوَّل على رؤية الأهلة، وإنما لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عَيانًا أو كالعَيان، وأما ما غمض حتى لا يُدرَك إلا بالظنون، وبكشف الهيئات الغائبة عن الأبصار فقد نُهينا عنه وعن تَكلُّفه ” (ر: العيني ج10/287).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في معرض احتجاجه لعدم جواز اعتماد الحساب: “إن الله سبحانه لم يجعل لمطلِع الهِلال حسابًا مستقيمًا.. ولم يضبِطوا سيرَه إلا بالتعديل الذي يتفق الحُسّاب على أنه غير مُطَّرِد، وإنما هو تقريب ” (الفتاوى ج 25/183).
وقال في مكان آخر: “وهذا من الأسباب المُوجِبة لِئَلّا يعمل بالكتاب والحساب في الأهلة” (المرجع نفسه ص 181).
وقد أكد هذا المعنى في مواطنَ عديدةٍ من الفصل الذي عقده في هذا الموضوع.
هذا، ويبدو من كلام شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أنه يعتبر اعتماد الحساب لمعرفة أوائل الشهور القمرية من قبيل عمل العَرّافين، وعمل المنجِّمين الذين يربطون الحوادث في الأرض وطوالع الحظوظ بحركات النجوم واقتراناتها . فقد قال في أواخر الفصل الطويل الذي عقده في هذا الموضوع: “فالقول بالأحكام النجومية باطلٌ عقلاً ومحرَّم شرعًا، وذلك أن حركة الفلك ـ وإن كان لها أثر ـ ليست مُستقِلّةً، بل تأثير الأرواح وغيرها من الملائكة أشدُّ من تأثيره، وكذلك تأثير الأجسام الطبيعية التي في الأرض..”.
ثم قال: “والعرّاف يَعُمُّ المنجِّمَ وغيرَه إما لفظًا، وإما معنًى. وقال ـ ﷺ: “مَن اقْتبس علمًا من النجوم فقد اقتبس شُعبة من السِّحر”(3) فقد تبين تحريم الأخذ بأحكام النوم، وقد بيَّنا من جهة العقل أن ذلك أيضًا متعذَّر في الغالب، وحُذَّاق المنجمين يوافقون على ذلك، فتَبَيَّنَ لهم أن قولَهم في رؤية الهلال وفي الأحكام(4) من باب واحد يُعْلَم بأدلة العقول امتناعُ ضبط ذلك، ويُعلَم بأدلة الشريعة تحريمُ ذلك..” (الفتاوى ج 25 / 198 ـ 201).
وقد اشتد شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ على من يقول باعتماد الحساب في الأهلة، وشنَّع عليه، وقال: “فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون اتبع غير سبيل المؤمنين” (الفتاوى ج 25/165و 174).
الرأي الذي نراه في هذا الموضوع:
يتضح من مجموع ما تقدم بيانه الأمور الأربعة التالية:
أولاً: أن النَّظر جميع الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في هذا الموضوع، وربْطَ بعضها ببعض ـ وكلها واردة في الصوم والإفطار ـ يبرز العلة السببية في أمر الرسول ـ ﷺ ـ بأن يعتمد المسلمون في بداية الشهر ونهايته رؤية الهلال بالبصر لبداية شهر الصوم ونهايته، ويبين أن العلة هي كونُهم أمة أمية لا تكتب لا تحسب، أي: ليس لديهم علم وحساب ومضبوط يعرفون به متى يبدأ الشهر ومتى ينتهي، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين يومًا، وتارة ثلاثين.
وهذا يدل بمفهومه أنه لو توافَر العلم بالنظام الفلكي المحكم في ثبوت الشهر القمري؛ الذي أقامه الله ـ تعالى ـ بصورة لا تختلف ولا تتخلف، وأصبح هذا العلم يوصلنا إلى معرفة يقينيّة بمواعيدِ الهلال في كل شهر، وفي أي وقت بعد ولادته تُمكن رؤيته بالعين الباصرة السليمة؛ إذا انتفت العوارض الجوية التي قد تحجب الرؤية، فحينئذٍ لا يوجد مانع شرعي من اعتماد هذا الحساب، والخروج بالمسلمين من مشكلة إثبات الهلال، ومن الفوضَى التي أصبحت مُخجِلةً، بل مُذهلةً، حيث يبلغ فَرْق الإثبات للصوم بين مختلف الأقطار الإسلامية ثلاثة أيام، كما يحصل في بعض الأعوام!!
ثانيًا: أن الفقهاء الأوائل الذين نصُّوا على عدم جواز اعتماد الحساب الفلكي في تحديد بداية الشهر القمري للصوم والإفطار، وسمَّوه حساب التسيير، قالوا: إنه قائم على قانون التعديل، وهو ظني مبني على الحدس والتَّخمين (كما نقلناه عن العلامة ابن حجر وابن بطال وابن بزيزة والنووي والسندي والعينى والقسطلاني)، وكلهم قد بَنَوْا على حالة هذا الحساب الذي كان في زمنهم، حيث لم يكن في وقتهم علم الفلك (الذي كان يسمَّى علمَ الهيئة، وعلمَ النجوم، و علمَ التسيير أو التَّنجيم) قائمًا على رصد دقيق بوسائل محكمة؛ إذ لم تكن، آنذاكَ، المراصدُ المُجهَّزة بالمكبرات من العدسات الزجاجية العظيمة؛ التي تقرِّب الأبعاد الشاسعة إلى درجة يصعُب على العقل تصوُّرُها، والتي تتبع حركات الكواكب والنجوم، وتسجلها بأجزاءٍ من مئات أو آلاف الأجزاء من الثانية الواحدة، وتقارن بين دورتها بهذه الدقة؛ ولذا كانوا يسمونه علم التسيير الذي يقوم على قانون التعديل، حيث يأخذ المنجِّم الذي يحسب سير الكواكب عددًا من المواقيت السابقة، ويقوم بتعديلها بأخذ الوُسطَى منها، ويبني عليها حسابه (وهذا معنى قانون التعديل كما يُشعر به كلامُهم نفسه).
من هنا كان حسابهم حدسيًّا وتخمينيًّا، كما وصفه أولئك الفقهاء الذين نفَوا جوازَ الاعتماد عليه، وإن كان بعضهم كالإمام النووي صرح بجواز اعتماد حسابهم لتحديد جهة القبلة ومواقيت الصلاة دون الصوم (مع أن الصلاة في حكم الإسلام أعظمُ خطورةً من الصوم بإجماع الفقهاء، وأشدُّ وجوبًا وتأكيدًا).
وقد نقلنا آنفًا كلام ابن بطال بأن “لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عَيانًا أو كالعَيان..” وهذا ما يتسِم به ما وصل إليه علم الفلك في عصرنا هذا من الدقة المتناهيةِ الانضباط.
ثالثًا: أن الفقهاء الأوائل واجهوا أيضًا مشكلة خطيرةً في عصرهم، وهي الاختلاط والارتباط الوثيق، إذ ذاك في الماضي، بين العِرافة والتنجيم والكِهانة والسحر من جهة، وبين حساب النجوم (بمعنى علم الفلك) من جهة أخرى.
فيبدو أن كثيرًا من أهل حساب النجوم كانوا أيضًا يشتغلون بتلك الأمور الباطلة، التي نهت عنها الشريعة أشد النهي، فكان للقول باعتماد الحساب في الأهلة مفسدتان:
الأولى: أنه ظنيٌّ من باب الحدس والتخمين مبنيٌّ على طريقة التعديل التي بَيَّنا معناها، فلا يُعْقَل أن تُتركَ به الرؤية بالعين الباصرة رغم ما قد يعتريها من عوارضَ واشتباهات.
الثانية: وهي الأشَدُّ خطورة والأدْهَى ـ هي انسياق الناس إلى التعويل على أولئك المنجِّمين والعَرّافين؛ الذين يحترفون الضَّحك على عقول الناس بأكاذيبهم، وتُرَّهاتهم، وشَعوذاتِهم.
وهذه المفسدة الثانية هي التفسير لهذا النَّكير الشديد؛ الذي أطلقه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ على من يلجؤُون إلى الحساب، حساب النجوم في إهلال الأهلة بدلاً من الرؤية، واعتباره إياهم من الذين يتبعون غير سبيل المؤمنين، وذلك بدليل أنه صرّح باعتبارهم من قَبيل العَرّافين، والذين يربطون أحداث الأرض وطوالع الناس وحظوظَهم بحركات النجوم، وسُمُّوا من أجل ذلك بالمنجمين، وذكر شاهدًا على ذلك الحديث النبوي الآنف الذُّكر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: “من اقتبس علمًا من النجوم فقد اقتبس شُعبةً من السحر.
فلا يُعقل أن ينهَى الرسول ـ ﷺ ـ عن علم يبيِّن نظام الكون، وقدرة الله تعالى وحكمته وعمله المُحيطَ في إقامة الكون على نظام دقيق لا يختل، ويدخل في قوله تعالى في قرآنه العظيم (قُلِ انظُروا ماذَا في السَّموات والأرْضِ) (يونس: 101)، فليس لهذا الحديث النبوي محمل إلا على تلك الشعوذات والأمور الباطلة: التي خلط أولئك المنجمون بينها وبين الحساب الفلكي؛ الذي لم يكن قد نضَج وبلغ في ذلك الوقتِ مرتبة العلم والثقة.
رابعًا: أما اليوم في عصرنا هذا الذي انفصل فيه، منذ زمن طويل، علم الفلك بمعناه الصحيح، عن التنجيم بمعناه العُرفي من الشعوذة، والكهانة، واستطلاع الحظوظ من حركات النجوم، وأصبح علم الفلك قائمًا على أسس من الرصد بالمراصد الحديثة، والأجهزة العملاقة التي تكتشف حركات الكواكب من مسافات السنين الضوئية، وبالحسابات الدقيقة المُتَيَقَّنة التي تحدِّد تلك الحركات بجزء من مئات أو آلاف الأجزاء من الثانية، وأُقيمت بِناء عليه في الفضاء حول الأرض محطات ثابتة، وتستقبل مركبات تدور حول الأرض..إلخ.. فهل يمكن أن يشك بعد ذلك بصحّتِه ويقين حساباتِه، وأن يُقاس على ما كان عليه من البساطة والظَّنِيّة والتعديل في الماضي زَمَنَ أسلافِنا رحمهم الله؟!