إن الخمر اسم لكل ما يُخمِّر العقل ويغطيه، دون النظر إلى المادة التي اتّخذ منها، وقد نصت الأحاديث على أن “كل مُسكرٍ خمر وكل خمر حرامٌ”، كما أن تحريم الخمر من التكاليف المعقولة التي يلْمس الإنسان سِرَّ تحريمها، وما تُحدثه في شاربها مِن أضرار روحية واجتماعية وصحية، وهذا كله فوق ما يُحدثه شُربها من الأضرار الاقتصادية والأدبية .
يقول الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق رحمه الله(1893-1963م):
أمرانِ يرتبطانِ بالخمر وأحكامه تمام الارتباط، ولابد للمسلمين مِن معرفتهما حتى يكونوا على بيِّنة مِن أمر دِينهم بالنسبة لمَا تَلَوكُهُ بعض الألْسنة المُنحرفة، ذات القلوب الفاسدة، والأفكار الزائفة ـ فيما يتعلق بمعنى الخمر ومُلحقاته ـ إمَّا جهلًا وإغراقًا في الجهالة بأساليب التحريم القرآنية، والقواعد التشريعية في الإسلام، وإمَّا مُحاولةً لطمْس الحقائق الدينية الواضحة عن طريق الخداع وإلباس الحق بالباطل، انتزاعًا للمسلمين من دِينهم وطمْسًا لشعائرهم، وتحريضًا لهم على اقتحام حُرمات الله باسم الفهْم والرأي، وما هو في واقعِه إلا كيْدٌ للإسلام وخديعةٌ للمسلمين.
الخمر كلُّ ما أسكر
وأول هذينِ الأمرينِ : هو أن الخمر في لسان الشرْع واللغة اسم لكل ما يُخمِّر العقل ويغطيه، ولا عِبرة بخصوص المادة التي يُتخذ منها، فقد يكون من العنب، وقد يكون من غيره، والأحاديث الصحيحة الواردة في الخمر واضحة في أن ذلك هو معناها:
قال رسول الله ﷺ: “كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ، ومَن شَرِبَ الخَمْرَ في الدُّنْيا فَماتَ وهو يُدْمِنُها لَمْ يَتُبْ، لَمْ يَشْرَبْها في الآخِرَةِ”.
وقال رسول الل ﷺ: “إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن العسل خمرًا، وأنا أَنْهِي عن كل مُسكر.
-بيَّن الرسول معنى الخمر هكذا، وهكذا فهم الأصحاب من كلمة خمر، وبادر ـ حين نزل تحريمها المؤكد بأساليب التحريم القوية المتعددة ـ كل مَن كان عنده شيءٌ منها بإراقته دون أن ينظر إلى المادة التي اتَّخذ منها، وهكذا خطب عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال: “أيها الناس: إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمس: من العنب، والتمْر، والعسل، والحِنطة، والشعير، والخمرُ ما خامَر العقل”. وكان ذلك في مَحضر كبار الصحابة وغيرهم ولم يُنكِر عليه أحدٌ منهم.
–ومن هنا نعلم أن الذين يُعلنون في مجالسهم الخاصة ـ انقيادًا لشهواتهم، وعبثًا بالدِّين والعقول ـ أن المُحرَّم هو خصوص المُتخذ من العنب، أو منه ومن التمر لا غير، وأن المُتخذ من غيرهما لا يَحْرُم تناوُله، قومٌ لا يكترثون بلُغة الألْفاظ ودلالتها، ولا ببيان الرسول، ولا يَركنون إلى فهْم أصحابه الذين تحدَّثوا عمَّا شاهدوا وسمعوا، وهم بعد هذا كله يُغالطون أنفسهم، ويَخدعون غيرهم في سِرِّ تحريم الخمر الذي حرَّمها الله لأجله، ودِين الله بيِّنٌ واضحٌ، ولا ينبغي أن تُتَّخذَ آياته سبيلًا للهْوِ واللعب.
–وليس تحريم الخمر من التكاليف “التعبديَّة” التي لا يُدرك المؤمن سِرَّ تكليفه بها، وإنما هو من التكاليف المعقولة التي يلْمس الإنسان سِرَّ تحريمها، ويراه واضحًا في نفسه، وفي نفس غيره عقلًا، وصحةً، ومالًا، وكرامةً.
سرُّ تحريم الخمْر
أما الأمر الثاني من الأمرينِ: فهو أن الإسلام حين قرَّر حُرمة الخمر وعقوبة شاربها، لم ينظر إلى أنها سائلٌ يُشرب وإنما نظر إلى الأثر الذي تُحدثه في شاربها مِن زوال العقل الذي يُفسد عليه إنسانيته، ويَسلبه مكانة التكريم التي منحه الله إيَّاها، ويُفسد عليه أيضًا ما يجب أن يكون بينه وبين الناس من صِلات المَحبة والصفاء، ويُطوع له مع هذا انتهاك الأعراض، وقتْل النفوس، ويُعكِّر عليه صفْو المعرفة بالله، الناشئة عن مُراقبته وتَذَكُّرِ عظمتِه.
-وذلك عنوانُ أضرارها الرُّوحية والاجتماعية التي حُرِّمَتْ لأجلها، كما تضمنها وأشار إليها بأساليب التحريم المتعددة القوية قوله ـ تعالى ـ من سورة المائدة: (يا أيُّها الذينَ آمنوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصاب ُوالأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشيطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لعلَّكمْ تُفْلِحُونَ . إنَّما يُريد الشيطانُ أنْ يُوقعَ بيْنكمُ العداوةَ والبَغضاءَ في الخمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وعَنِ الصلاةِ فهَلْ أنتمْ مُنْتَهُونَ)؟.
–وقد كشف البحث الإنساني، في ضوء هذا الوحي الإلهي الكريم، أنَّ للخمر مع هذه الأضرار أضرارًا أخرى، أجمع عليها الأطباء، في الكبِد والمعدة، وسائر الأجهزة، وأنَّ هذه الأضرار كان لها في القضاء على الإنسان أشدُّ ما عُرف للأمراض الفتاكة من القضاء عليه .
–وحسب الذين يميلون إلى الخمر، أو يُحاولون خديعة الناس عن حُكمها في الإسلام، أن يعرفوا ذلك ليتبيَّن لهم كيف يرحمهم الله الحكيم بتحريم الخمر، وكيف يُصورها لهم بأنها: (رِجْسٌ مِن عملِ الشيطانِ). وأي رجس بعد هذا؟
-وهذا كله فوق ما يُحدثه شُربها من الأضرار الاقتصادية، التي تَذهب أموال شاربها سفهًا بغير علمٍ، إلى خزائنِ الذينَ اصطنعوها وصَدَّرُوها، وتفنَّنوا في سُبل الإعلان عنها والإغراء بها، وفوق ما تُحدثه من الأضرار الأدبية في الذهاب بالحِشْمة والوقار، واحترام الأهل والأبناء والأصدقاء، وفوق التوارُث لرِجْسيَّتها بين الآباء والأحفاد، ولهذا كله حرَّم الإسلام الخمر.