حرصت الشريعة الإسلامية على وحدة المسلمين، فأمرت بالاتحاد والإخاء، وجعلت الفرقة والاختلاف أمرا منبوذاً، والأدلة على ذلك كثيرة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ ـ واتخذت الشريعة لهذه الوحدة عدة وسائل نذكر منها :

الأمر بالاعتصام ونبذ التفرق والاختلاف

أمر القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة بالاعتصام والوحدة، فيقول ربنا تبارك وتعالى : [ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون] .

فقد نزلت هذه الآيات في ذم الفرقة والدعوة إلى الوحدة وفي أسباب نزولها ما يوضح ذلك :

أخرج ابن إسحاق وابن جرير الطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال : مر شاس بن قيس ـ وكان شيخا عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله ـ ـ من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد ما كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال : قد اجتمع ملأ بن قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا معه من يهود فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بعاث، وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، أوس بن فيظى أحد بنى حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم ـ والله رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعا، وقالوا : قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة، والظاهرة الحرة ( أي عند مكان يسمى الحرة وقت الظهر ) فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله ( ) ـ فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين الله الله…أ بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم ران ( ظلم ) الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم كفارا؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم لهم فألقوا السلاح، وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله ـ ـ سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوهم وعدو الله شاس، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس وما صنع : {قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ، والله شهيد على ما تعملون} إلى قوله تعالى : {وما لله بغافل عما تعملون} وأنزل سبحانه وتعالى في “أوس بن فيظى وجبار بن صخر”، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا : {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} إلى قوله تعالى : {أولئك لهم عذاب عظيم}.

والواضح أن أعداء الله يغيظهم أن تجتمع كلمة المسلمين، بل نجدهم صفوفا مجتمعة علينا لتفريقنا رغم ما بينهم من خلاف فشملهم متفرق إلا على الإسلام وضربه والمكيدة له، وعلى الصد عن دين الله تعالى، وهذا ما فعله عدو الله (شاس) اليهودي.

وكذلك التعبير القرآني الفريد الذي يقرن الوحدة بالإيمان، والتفرق بالكفر فيقول تعالى : {يردوكم بعد إيمانكم كافرين} . أي بعد وحدتكم تتفرقون، وبعد أخوتكم تصيرون أعداءً، وهذه مقدمة الكفر بعد الإيمان.

وعدم الفرقة والاعتصام بحبل الله تعالى مما يرضاه لنا الله تعالى : أخرج مسلم و البيهقي عن أبي هريرة، أن رسول الله ـ ـ قال : “إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم : قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال” .

وقال تعالى على لسان هارون عند مخاطبته موسى عليهما السلام: {يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} .

“أي خشيت أن أخرج وأتركهم وقد أمرتني أن أخرج معهم، فلو خرجت لا تبعني قوم و لتخلف مع العجل قوم، وربما أدى الأمر إلى سفك الدماء، وخشيت إن زجرتهم أن يقع قتال فتلومني على ذلك” .

فواضح أن هارون ـ عليه السلام ـ آثر عدم الفرقة وبقاء الجماعة على أي شكل من الأشكال حتى لو كلفه ذلك أن يصبر على عصيان بعضهم، أو حتى خروج بعضهم من الملة إلى أن يأتي موسى ـ عليه السلام ـ .

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا نذكر منها :

نهيه ـ ـ عن كل عمل يؤدي للفرقة، فقد وضع النبي ـ ـ حدا للهجر بين المسلم وأخيه، ففي حديث أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله ـ ـ قال : “لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، كونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام” .

ما هي نتيجة التفرق والاختلاف

إن الذين يختلفون في دين الله تعالى ويتفرقون بعدما علموا الحق، ونهوا عن الاختلاف في دين الله تعالى فإن العذاب العظيم في انتظارهم، يقول الله تعالى : {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} .

فعاقبة التفرق والخلاف عذاب أليم في الآخرة، وفي الآية ينهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مع قيام الحجة عليهم .

والفرقة نتيجة طبيعية للخلاف، ولذلك قدمها عليه لبيان أن الاختلاف لم يكن للوصول إلى الحق، ولكنه اختلاف مذموم يؤدي إلى الفرقة والشتات .

ويقول تعالى : {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ، إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون}.

ومعنى فرقوا أي آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، أو كما قال علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ورضي الله عنه ـ : “والله ما فرقوا ولكن فارقوا”، وهم أهل البدع والضلالة والشبهات، ومعنى كلمة (شيعا) فرقا وأحزابا، “وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع .

فكل فرقة تدعي أن ما معها الصواب الذي لا خطأ فيه، وكل فريق يزعم ذلك هو متعصب لرأيه أو لفرقته، فالمسلمون جميعا أمة واحدة ليست شيعا ولا أحزابا، وإن اقتضى الأمر حتى يتميز الدعاة للإسلام عن غيرهم ليقفوا صفا واحدا، فلا يصح لهم أن يمنعوا غيرهم من الدخول معهم لسماعهم ومناقشتهم، وإذا تحزب قوم على بدعة، أو على الأخذ من الدين بما يوافق هواهم، وشقوا عصا الطاعة فهؤلاء وجب براءة الرسول ـ ـ منهم، ويُتركوا الله دون شفاعة من أحد ليحاسبهم على أعمالهم .

والفرقة تؤدي إلى الكفر، يقول ربنا تبارك وتعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين}.

فالولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والطاعة كذلك، فإن أطاع المسلم كافرا في حرب المسلمين فقد بدأ يخرج من دين الله، لأن أهل الكتاب لن يرضوا عن أحد من المسلمين حتى يتبع ملتهم، ولذلك حذرنا الله تعالى منهم، وأمرنا ألا نطيعهم ولا نواليهم، فإن والاهم أحد من المسلمين بعد تحذير الله الشديد من عدم الموالاة فإن مصيره إلى الله تعالى ليذوق العذاب الأليم.

ولقد اختلفت الأمم حول أنبيائهم : فمنهم من آمن بالله تعالى ومنهم من كفر فأهلكه الله تعالى، ومرد هلاك الأمم إلى رفضهم الطاعة لله تعالى واتباع الأنبياء فكفروا بهم وبالله تعالى فأنزل الله عليهم العذاب الشديد، فمن خسف وإغراق وحرق بالصواعق إلى طاعون وجراد وغيرها من المهلكات .

فمما سبق يتبين أن الشريعة الإسلامية تدعو إلى الوحدة ونبذ الفرقة التي ربما تكون سببا في الكفر والهلاك وغير ذلك . وما أحوج المسلمين اليوم للاتحاد فقد اتحدت كل القوى وتفرق المسلمون .أ.هـ