من آثار الرحمة والرأفة أن يشعر الإنسان بحرج في خذلان المساكين المحاويج الذين اضطرتهم ضراوة الحياة وقسوتها إلى السعي وراء لقمة العيش.
فمن كان مستحقا لشيء فيجوز إعطاءه شهادة به ، بشرط أن يكون مستحقا له إلا أن الإجراءات تحول بينه وبين الحصول عليه.
ونؤكد على أن من لا يستحق شيئا فلا يجوز أن نعينيه على الباطل.
هل الكذب محرم لذاته
الكذب ليس محرما لذاته، ولكنه محرم لما يمكن أن يؤدي إليه من أكل أموال الناس بالباطل، أو إهدار الحقوق، أو التفلت من الواجبات، أو إخبار الناس بالأمور على غير وجهها.
متى يجوز الكذب
يقول الإمام أبو حامد الغزالي:-
اعلم أن الكذب ليس حرامًا لعينه، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً، وقد يتعلق به ضرر غيره، ورب جهل فيه منفعة ومصلحة، فالكذب محصل لذلك الجهل، فيكون مأذونًا فيه، وربما كان واجبًا.
قال ميمون بن مهران: الكذب في بعض المواطن خير من الصدق، أرأيت لو أن رجلاً سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله، فدخل دارًا، فانتهى إليه فقال: أرأيت فلانًا ؟ ما كنت قائلاً ؟ ألست تقول: لم أره ؟ وما تصدق به . وهذا الكذب واجب.
فتقول: ” الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحًا، وواجب إن كان المقصود واجبًا.
ومهما كان لا يتم مقصود الحرب، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه، إلا بكذب، فالكذب مباح إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن، لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه، فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة . فيكون الكذب حرامًا في الأصل إلا لضرورة.
والذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت: ” ما سمعت رسول الله – ﷺ – يرخص في شيء من الكذب، إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الإصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها . (أخرجه مسلم).
وقالت أيضًا: قال رسول الله – ﷺ -: ” وليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيرًا أو نمى خيرًا “. (متفق عليه).
وقالت أسماء بنت يزيد: قال رسول الله – ﷺ -: ” كل الكذب يكتب على ابن آدم، إلا رجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما “. (أخرجه أحمد بزيادة فيه وهو عند الترمذي مختصر وحسنه).
قال: ” فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له، أو لغيره “.
أما ماله: فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله، فله أن ينكره، أو يأخذه سلطان، فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها، فله أن ينكر ذلك، فيقول: ما زنيت وما سرقت وقال – ﷺ -: ” من ارتكب شيئًا من هذه القاذورات، فليستتر بستر الله ” (الحاكم من حديث عمر بلفظ: ” اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله ” وإسناده حسن، كما قال الحافظ العراقي)، وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلمًا، وعرضه بلسانه، وإن كان كاذبًا.
وأما عرض غيره: فبأن يسأله عن سر أخيه، فله أن ينكره، وأن يصلح بين اثنين، وأن يصلح بين الضرات من نسائه، بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه، وإن كانت امرأته لا تطاوعه إلا بوعد لا يقدر عليه، فيعدها في الحال تطييبًا لقلبها، أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد فلا بأس به.
ولكن الحد فيه، أن الكذب محذور ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور، فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر، ويزن بالميزان القسط، فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعًا في الشرع من الكذب، فله الكذب، وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما، وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى، لأن الكذب يباح لضرورة، أو حاجة مهمة فإن شك في كون الحاجة مهمة، فالأصل التحريم، فيرجع إليه.
” ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد، ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه، وكذلك مهما كانت الحاجة له، فيستحب له أن يترك أغراضه، ويهجر الكذب، فأما إذا تعلق بغرض غيره، فلا يجوز المسامحة لحق الغير، والإضرار به، وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم ثم هو لزيادات المال والجاه، لأمور ليس فواتها محذورًا، حتى إن المرأة لتحكي من زوجها ما تفخر به، وثكذب وتكذب لأجل مراغمة الضرات (أو الزميلات)، وذلك حرام.
وقالت أسماء: سمعت امرأة سألت رسول الله – ﷺ – قالت: إن لي ضرة وإني أتكثر من زوجي بما لم يفعل، أضارها بذلك، فهل على شيء فيه ؟ فقال – ﷺ -: ” المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور “. (متفق عليه، وهي أسماء بنت أبي بكر الصديق).
” ومما يلتحق بالنساء الصبيان، فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب (أو المدرسة أو الصلاة) إلا بوعد أو وعيد، أو تخويف كاذب، كان ذلك مباحًا.
” نعم، روينا في الأخبار أن ذلك يكتب كذبًا، ولكن الكذب المباح أيضًا قد يكتب، ويحاسب عليه، ويطالب بتصحيح قصده فيه ثم يعفي عنه، لأنه إنما أبيح بقصد الإصلاح، ويتطرق إليه غرر (أي خطر) كبير، فإنه قد يكون الباحث له حظه وغرضه الذي هو مستغن عنه، وإنما يتعلل ظاهرًا بالإصلاح، فلهذا يكتب “.
” وكل من أتي بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله: هل هو أهم في الشرع من الصدق أم لا ؟، وذلك غامض جدًا، والحرام تركه، إلا أن يصير واجبًا، بحيث لا يجوز تركه، كما لو أدى إلى سفك دم، أو ارتكاب معصية كيف كان “. (إحياء علوم الدين، جـ 3، ص 137، ص 139).