الرؤية هي الأصل في تحديد بداية الشهور القمرية ، واعتبار تعدد المطالع مختلف فيه بين العلماء ، والقول المختار إذا رأى أهل بلد الهلال أنه لا يثبت حكمه لمن بَعُد عنهم ، فإن تَبِعُوا رؤيتهم كان أولى لما فيه إظهارٍ لوحدة الأمة ، لكن ذلك لا يلزمهم .

روَى مسلم في صحيحه أن أم الفضل بنت الحارث بعثت كريبا إلى معاوية بالشام ليقضي لها حاجة ، فلما قضاها استهلَّ عليه رمضان وهو بالشام ، فرأى الهلال ليلة الجمعة . فلما قدم المدينة آخر الشهر سأله عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-: متى رَأَوُا الهلال في الشام؟ فقال: رأيناه ليلة الجمعة، رأيتُه أنا ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية، فقال له ابن عباس: لكنَّنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقال له كريب، أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أَمَرَنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم .. وشك أحد رُواة الحديث ـ وهو يحيى ـ في قول كريب: “أو لا نكتفي” أو “لا تكتفي” يعني بالنون أو التاء .

والنووي في شرحه لصحيح مسلم “ج 7 ص 188 ـ 197” ذكر أن هذا الحديث يدل على أن لكل بلد رؤيتهم. وأنهم إذا رَأَوُا الهلال في بلد لا يثبت حكمه لِمَا بَعُدَ عنهم. ثم قال: والصحيح عند أصحابنا ـ الشافعية ـ أن الرؤية لا تَعُمُّ الناس، بل تختص بمَن قرُب على مسافة لا تقصر فيها الصلاة. وقيل: إن اتفق الإقليم وإلا فلا. وقال بعض أصحابنا:” تعم الرؤية في موضع جميع أهل الأرض. فعلى هذا القول إنما لم يَعْمَل ابن عباس بخبر كريب؛ لأنه شهادة، فلا يثبُت بواحد. لكن ظاهر حديثه أنه لم يردَّه لهذا، وإنما رده لأن الرؤية لم يثبت حكمها في حق البعيد. أهـ.

إن النووي لخَّص الأقوال في مذهب الشافعي، وهي أقوال في المذاهب الأخرى يُمكِننا أن نُرجعها إلى ثلاثة أساسية:

القول الأول :أن لكل بلد مطلعه، فلا تلزَم رؤية بلد بلدًا آخر، قرُب أو بعُد.

القول الثاني :أن رؤية أي بلد تُلزِم كل بلاد الأرض ولو تباعدت.

القول الثالث :أن رؤية أي  بلد تلزم البلد القريب منه أو المتفق معه .

وفي القرب والاتفاق، على هذا القول، آراء مُختَلِفة، تدور حول اعتبار مسافة القصر، والاتفاق في المطلَع أو الإقليم أو الارتفاع والانحدار، أو غير ذلك.

فمع اختلاف المذاهب الأساسية يُوجد اختلاف بين علماء المذهب الواحد (انظر: نيل الأوطار للشوكاني ج 4 ص 205 وما نقله عن ابن حجر في الفتح وغيره). وكلها آراء اجتهادية لا تقوم على دليل قطعي ثبوتًا ودلالة، فيختار منها ما يَتَّفِق والمصلحة العامة.

والقول الثالث وإن كان وسطًا بين القولين الآخرين إلا أن مَناط القرب والاتفاق وما تشعَّب عنه من آراء قلَّل من أهميته فيما يَسْتَهْدِفه الناس في هذه الأيام من العمل على توحيد أوائل الشهور في البلاد الإسلامية، اللهم إلا إذا كان هناك إمام أعظم لأكثر من إقليم، فإن حكمه بالرؤية في بلد يَعُمُّ الجميع.

ولهذا تحمَّس كثير من الدوَل الإسلامية الآن للقول الثاني في التزام الجميع برؤية بلد واحد، إلا أنهم قالوا: إن البلاد التي تلتزم برؤية بلد واحد يُشْتَرَط أن تشترِك في جزء من الليل، وقالوا: إن الفرق في التوقيت بين أقصى التجمعات الإسلامية الكبيرة في الشرق كإندونيسيا والفلبين وأقصى هذه التجمُّعات في الغرب كالمغرب وهو تسع ساعات، والبلاد التي تقع إلى الغرب عندها فرَص أكبر لرؤية الهلال، ويُمكِنها أن تخبر بها الدول الشرقية بالطرُق السريعة الحديثة، فيُصبح الجميع وهم صائمون.

ومن أجل هذا عُقِدت مؤتمرات للنظر في توحيد الأهلة كان من أهمها المؤتمر الثالث لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف الذي عُقِد بالقاهرة في الفترة من 15 من جمادى الآخرة ـ 13 من رجب سنة 1386هـ “30 من سبتمبر ـ 27 من أكتوبر سنة 1966م” ، ومؤتمر وُزَراء الأوقاف والشئون الإسلامية الذي عُقِد بالكويت في الفترة من 23 ـ 28 من المحرم سنة 1393هـ “26 من فبراير ـ 3 من مارس 1973م” ومؤتمر إسطنبول الذي عُقِد في الفترة من 26 ـ 29 من ذي الحجة سنة 1398هـ “27 ـ 30 نوفمبر سنة 1978م” والدورة السادسة للجنة التقويم الهجري المُوَحَّد التي عُقِدت بمكة في الفترة من 10 ـ 12 من المحرم سنة 1406هـ “24 ـ 26 من سبتمبر سنة 1985م”، والمؤتمر السادس عشر لوزراء الخارجية الذي عُقِد بمدينة فاس بالمغرب في الفترة من 6 ـ 10 من يناير سنة 1986م.

والهدف من التحمس لتوحيد أوائل الشهور العربية هو تقوية الوحدة الإسلامية، وسد الثغرات التي يَنْفُذ منها العدو للطعن في الدين والنَّيل من المسلمين. غير أن هناك عوامل أخرى تُقَلِّل من فاعلية هذا العامل لتحقيق الهدف المنشود، ولهذا لم يتحمَّس لهذه الفكرة بعض الدوَل، فقد جاء في القرار السابع للمجمع الفقهي الإسلامي بمكة: لا حاجة إلى الدعوة لتوحيد الأهلة والأعياد في العالَم الإسلامي؛ لأن توحيدها لا يَكفُل وَحْدتهم كما يَتَوَهَّمه كثير من المقترحين لتوحيد الأهلة والأعياد. وأن تُتْرَك قضية إثبات الهلال إلى دور الإفتاء والقضاء في الدول الإسلامية؛ لأن ذلك أولى وأجدر بالمصلحة الإسلامية العامة، وأن الذي يكفل توحيد الأمة وجمْع كلمتها هو اتفاقهم على العمل بكتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع شئونهم. أهـ.

وفيما يلي ما جاء في المؤتمر الثالث لمجمع البحوث الإسلامية خاصًّا بهذا الموضوع :

أ. يُقَرِّر المؤتمر ما يلي :

1. إن الرؤية هي الأصل في معرفة دخول أي شهر قمري كما يدل عليه الحديث الشريف، فالرؤية هي الأساس. لكن لا يُعْتَمَد عليها إذا تمكَّنت منها التهَم تمكنًا قويًّا.

2. يكون ثبوت رؤية الهلال بالتواتُر والاستفاضة، كما يكون بخبر الواحد ذكرًا كان أو أنثى، إذا لم تتمكَّن التهمة في إخباره لسبب من الأسباب. ومن هذه الأسباب مُخالفة الحساب الفلكي الموثوق به الصادر ممن يُوثَق به.

3.خبر الواحد مُلْزِم له ولمَن يَثِق به، أما إلزام الكافة فلا يكون إلا بعد ثبوت الرؤية عند مَن خصَّصته الدولة الإسلامية للنظر في ذلك.

4. يُعْتَمد على الحساب في إثبات دخول الشهر إذا لم تتحقق الرؤية ولم يتيسر الوصول إلى إتمام الشهر السابق ثلاثين يومًا.

ب. يرى المؤتمر أنه لا عبرة باختلاف المطالع وإن تباعدت الأقاليم ، متى كانت مُشْتَرِكة في جزء من ليلة الرؤية وإن قل ، ويكون اختلاف المطالع مُعْتَبَرًا في الأقاليم التي لا تشترك في جزء من هذه الليلة .

ج. يَهِيب المؤتمر بالشعوب والحكومات الإسلامية أن يكون في كل إقليم إسلامي هيئة إسلامية يُناط بها إثبات الشهور القمَرية، مع مُراعاة اتصال بعضها ببعض، والاتصال بالمراصد والفلَكِيِّين الموثوق بهم.