الرؤيا علم لطيف، أعرض عنه كثير من الناس في غمرة الهجمة المادية التي تشهدها الحياة المعاصرة بجميع شئونها حتى ظنه البعض ضرباً من الوهم أو نوعاً من أنواع الدجل.
وما كان علم تعبير الرؤيا كذلك، وما ينبغي له أن يكون بعد أن حدثنا عنه القرآن الكريم مرارا،ً وتعددت أحاديث رسول الله ﷺ التي تتناوله تكرارًا.
يقول الدكتور عبد الستار أبو غدة : إن علم الرؤيا والتعبير أحد العلوم التي عني بها في الإسلام بعدما تطرق إليها القرآن الكريم أكثر من مرة، في قصة سيدنا يوسف، وقصة سيدنا إبراهيم مع سيدنا إسماعيل، وحفلت بتنظيم أحكامها السنة النبوية واهتم بها العلماء في أكثر من مجال.
تعريف علم تعبير الرؤيا :
وقد ورد تعريفه في (كشف الظنون) لحاجي خليفة فقال : هو علم يتعرف منه الاستدلال من المتخيلات الحملية على ما شاهدته النفس حال النوم من عالم الغيب، فخيّلته القوة المتخلية مثالاً يدل عليه في عالم الشهادة.
وهذا التعريف هو أحد التعاريف العديدة التي ذكرها العلماء بهذا الخصوص، وهي تشير إلى أن الرؤيا التي يراها النائم ليست إلا رمزاً وإشارة، ومعنى لطيفاً يحتاج إلى معبّر يجيد فن التعبير، ليكشف ما ترمز إليه تلك الرؤى.
أمثلة قرآنية في تعبير الرؤيا :
ولا يجهل أحد في هذا المجال قول الله سبحانه في قصة يوسف عليه السلام: {وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات).
وقد جاء الملك تفسير تلك الرؤيا في قول يوسف الصديق عليه السلام:(قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) [سورة يوسف الخ].
وهذه الآيات هي واحدة مما ذكره الله سبحانه عن يوسف عليه السلام في مجال هذا العلم.
وكالرؤيا التي افتتح بها سورة يوسف، حين رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين ، كالرؤيا التي فسرها للرجلين الذين دخلا معه السجن، حيث قال أحدهما: إنه رأى نفسه يسقي ربه خمرا، بينما قال الآخر: إنه رأى فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه.
كما لا يجهل أحد أن علم تعبير الرؤيا فضل من الله ومنة، يهبه لمن يشاء، ولذلك شكر يوسف ربه عليه فقال:{ رب قد آتيتني من الملك، وعلمتني من تأويل الأحاديث}.
الأنبياء.. والرؤيا الصادقة :
قال الشيخ عبد الغني النابلسي في كتابه (تعطير الأنام في تعبير المنام) : وكانت الأنبياء صلى الله وسلم عليهم يعدونها من الوحي إليهم في شرائع الأحكام، وقد ذهبت النبوة وبقيت المبشرات: الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له في المنام، على حسب ما ورد في الحديث.
ولقد اشتهر وصح أن النبي ﷺ ـ كما أخبرت عنه عائشة رضي الله عنها ـ كان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح حقيقة واضحة.
بل أكثر من هذا كان النبي ﷺ إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه : “هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا” فيقصون عليه ما رأوا، يستبشر عليه السلام بما وقع من ذلك مما فيه ظهور الدين وإعزازه.
ولا شك أن هناك جزءاً من هذا القبيل يدخل تحت اسم أضغاث الأحلام.. يقول ابن خلدون في مقدمته: لكن إن كانت تلك الصور متنزلة من الروح العقلي المدرك فهي رؤيا،ـ وإن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة فهي أضغاث أحلام.
علامات الرؤيا وآدابها :
وحتى لا تختلط أضغاث الأحلام بالرؤيا الصادقة ذكر العلماء علامات للرؤيا الصادقة، تعرف بها وتدل عليها.
-وقالوا: إن علامات الرؤيا الصادقة سرعة انتباه الرائي عندما يدرك الرؤيا، كأنه يعاجل الرجوع إلى الحس باليقظة، ولو كان مستغرقاً في نومه لثقل ما ألقي عليه من ذلك الإدراك.
-ومن علاماتها ثبوت ذلك الإدراك ودوامه بانطباع تلك الرؤيا بتفاصيلها في حفظه.
كما ذكر العلماء آداباً للرؤيا الصالحة التي يسر بها المؤمن، وآداباً للرؤيا المكروهة التي تسوء المؤمن.
فمن آداب الرؤيا الصالحة التي يسر بها المؤمن:
-أن يحمد الله تعالى عليها.
-وأن يتفاءل بها خيراً.
-وأن يذكرها لمن يحب من إخوانه.
وأما الرؤيا المكروهة التي تسوء المؤمن فآدابها:
-أن يستعيذ بالله من شرها وشر الشيطان.
-وأن يتفل عن يساره ثلاثا.
-وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه نائما.
-وأن لا يذكرها لأحد.
وقد ورد عن النبي ﷺ في شأن الرؤيا وأقسامها وآدابها أحاديث كثيرة لعل من أجمعها قوله : “إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب. وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً، ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة، والرؤيا ثلاثة: -فرؤيا صالحة بشرى من الله،
-ورؤيا تحزينٌ من الشيطان،
-ورؤيا مما يحدّث المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل، ولا يحدثْ بها الناس”.
قال ابن خلدون : ثم إن علم التعبير علم بقوانين كلية يبنى عليها المعبر عبارة ما يُقص عليه. وتأويله كما يقولون: البحر يدل على السلطان، وفي موضع آخر يقولون: البحر يدل على الغيظ، وفي موضع آخر على الهم والأمر الفادح… فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية، ويعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعيّن من هذه القوانين ما هو أليق بالرؤيا.
معبرو الرؤى وصفاتهم :
-ويضيف ابن خلدون : ولم يزل هذا العلم متناقلاً بين السلف. وكان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء، وكتبت عنه في ذلك قوانين، وتناقلها الناس لهذا العهد، وألف الكرماني فيه من بعده، ثم ألف المتكلمون المتأخرون وأكثروا.
-وفعلاً… فقد أثر عن ابن سيرين رحمه الله إمام هذا العلم وعلَمُه الشيء الكثير من تعبير المنام. ومن ذلك أنه دخل عليه رجل وهو بين تلاميذه، فقال: إني رأيت نفسي أُأَذِّنُ. فقال له ابن سيرين : تحج هذا العام إن شاء الله، وقبل أن ينفض المجلس دخل عليه رجل آخر فقال له: إني رأيت نفسي في المنام أأذن. فتفحصه ملياً ثم قال لمن حوله: أمسكو به هذا لص. فتعجبوا من ذلك وزاد عجبهم بعدما أقر الرجل بأنه سرق. ولكن ابن سيرين أزال عجبهم بقوله: أما الأول فيناسبه قوله سبحانه : (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) وأما الآخر فيناسبه قوله تعالى : (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ).
-ولما تكلم الشيخ النابلسي عن المعبر وصفته قال : وينبغي للمعبر إذا قصت عليه الرؤيا أن يقول: خيراً رأيت،َ وخيراً نلقاه، وشراً نتوقاه. خير لنا وشر لأعدائنا. الحمد لله رب العالمين، اقصص رؤياك. وأن يكتم على الناس عوراتهم، ويسمعَ السؤال بأجمعه، ويميزَ بين الشريف والوضيع، ويتمهلَ ولا يعجل في رد الجواب، ولا يعبر الرؤيا حتى يعرف لمن هي، ويميز كل جنس وما يليق به.
-وليكن العابر عالماً فطناً ذكياً تقياً نقياً من الفواحش، عالماً بكتاب الله تعالى وحديث النبي ﷺ ولغة العرب وأمثالها، وما يجري على ألسنة الناس.
-ولا يعبر الرؤيا في وقت الاضطرار، وهي ثلاثة : طلوع الشمس، وغروبها، وعند الزوال… إلى آخر ما قال رحمه الله..
-ونلفت الأنظار إلى أن الاهتمام بالرؤيا أصبح اليوم جزءاً من علم النفس على النسق الغربي، مما فتح المجال أمام آراء غريبة كل الغرابة عن طبيعة هذا الموضوع من حيثيات عديدة.
كتب علم تعبير الرؤيا :
وأشهر الكتب في هذا المجال:
-(تعطير الأنام في تعبير المنام) للشيخ عبد الغني النابلسي، وله أيضاً أرجوزة (العبير في التعبير).
-وكتاب (التعبير المنيف والتأويل الشريف) لمحمد بن قطب الدين الرومي الأزنيقي.
-و(تعبير ابن المقري).
-و(كتاب ابن أبي طالب القيرواني الممتّع).
-و(كتاب التعبير) لأبي سعيد الواعظ.
-و(كتاب الإشارات في علم العبارات) لخليل بن شاهين الظاهري.انتهى