اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم تصرف الآدمي في أعضائه ، فمنهم من أجازه بشروطه ، مثل قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في نقل الأعضاء ، كذا الشيخ جاد الحق علي جاد الحق في فتوى له عن نقل الأعضاء، وقد أجاز الشيخ القرضاوي التبرع بالأعضاء دون بيعها في فتوى عن التبرع بالأعضاء : حكمه وشروطه، وبعض العلماء منع التصرف في الأعضاء مطلقاً تبرعاً أو بيعاً.

ومنهم د. عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر حيث قال :

ثار الجدل بين كثير من الناس على اختلاف ثقافاتهم عن مدى شرعية تَصَرُّف الإنسان في أعضائه بمُعاوَضَة أو تبرُّع تصرفًا مضافًا إلى حال الحياة بالبيع أو الهِبَة أو نحوهما، أو تصرفًا مضافًا إلى ما بعد الموت بالوصية، ووَصَف البعض آراءَ المجيزين بالشجاعة، ومواكَبة التقدُّم العلمي، والتطوُّر الحضاري، إلى غير ذلك من ألفاظ رنَّانة، ووصف آراء المانعين بضد ذلك.

وبعيدًا عن هذه الطنطنات التي لا طائل من ورائها، وعن الجرأة على مخالفة شرع الله تعالى لإرضاء طائفة من الناس هنا أو هناك نناقش هذه القضية بموضوعية وإيجاز شديدين في ضوء أحكام الشريعة الغَرَّاء؛ ليَهْلِكَ مَن هلك عن بينة، ويَحْيا مَن حَيَّ عن بينة.

وفي البداية نقرر قاعدة فقهية مضطردة وهي: أن صحة التصرف في الأشياء مدارها على ولاية المُتصرِّف على ما يتصرف فيه، سواء كانت هذه الولاية أساسها مِلْكيته لهذا الشيء، أو نيابته عن مالكه، أو ولايته أو وِصايته عليه، ومِن ثَمَّ فإن تصرف الآدمي في أعضائه بعِوَض أو بغير عِوَض تصرفًا مضافًا إلى حال الحياة بالبيع أو الصلح أو هبة الثواب أو الهبة المطلقة عن شرط الثواب، أو تصرفًا مضافًا إلى ما بعد الموت بالوصية يقتضي ملكية الآدمي لأعضائه، وهذه الأعضاء ليست ملكًا له، وإنما له حق الانتفاع بها بما لا يُلحِق بها ضررًا، بل المالك لها هو الحق سبحانه، ودليل هذا أن الشارع نهى المُكَلَّفين عن استعمال هذه الأعضاء فيما يُتلِفها، أو يُودِي بحياة مُستَعْمِلِها، فقال سبحانه: (ولا تُلْقوا بأيديكم إلى التَّهْلُكة..) وقال تعالى: (ولا تَقْتُلوا أنفسَكم إنَّ اللهَ كانَ بكم رحيمًا) ورُويَ عن أبي هريرة أن رسول الله ـ ـ قال: “مَن تَرَدَّى من جبل فقتَلَ نفسَه فهو في نار جهنمَ يَتَرَدَّى فيها خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا، ومن تَحَسَّى سُمًّا فقتل نفسَه، فسُمُّه في يده يَتَحَسَّاه في نار جهنم خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا، ومَن قتل نفسَه بحديدة، فحديدتُه في يده يَجَأُ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا”.

وإذا كان الشارع قد حَرَّم على الإنسان أن ينتفع بأعضاء بدنه على نحو يَضُرُّ بها، وكان هذا الوعيد الشديد الوارد في الحديث على مًن يُتْلِف بدنَه، أو يُلْقي بنفسه إلى الهلاك، فإن هذا يدل على عدم مِلْكية الإنسان لأعضاء بدنه إذ لو كان مالكًا لها لَجاز له فيها كلَّ تصرف ولو كان بإتلافها، شأن كل تصرف للإنسان فيما يَملِك، لاسيما أن بدن الآدمي ليس من الأموال باتفاق الفقهاء، فلا يُعَدُّ إتلافه في هذه الحالة من قَبِيل إضاعة المال المَنْهي عنه، فمعاقبته على إتلاف هذا البدن دليل عدم ملكيته له، ومن ثَمَّ فإنه لا يجوز له أن يتصرف في أي عضو من أعضائه تصرفًا مضافًا إلى حال الحياة بعِوَض أو بغيره، وإن جاز أن يُستَأْجَر لمنفعة تُستَوْفَى منه، لا يترتَّب على استيفائها إتلاف نفسه أو الإضرار بها بما يكون سببًا إلى هذا الإتلاف كما في استئجار الظِّئْر للإرضاع، أو الأجير للعمل؛ للنصوص الكثيرة الواردة في ذلك.

يضاف إلى هذا أن محل العقود مطلقًا سواء كانت معاوضةً أو تبرعًا لابد وأن يكون مالاً مُتَقَوَّمًا، وبدن الآدمي وأعضاؤه ليست مالاً باتفاق الفقهاء، فلا يُرَدُّ عليها عقد البتة سواءً كان معاوضة أو تبرعًا، ولابد كذلك أن يكون المحل قابلاً لحكم العقود الواردة عليه، وبدن الآدمي وأعضاؤه لا تَقبل أحكام العقود عامة، إذ لا تقبل الشروط التي اعتبرها الفقهاء لصحة العقود، ولا تقبل كذلك الآثار المترتِّبة على هذه العقود، ومِن ثَمَّ فإنها لا تَصْلُح أن تكون محلًّا لعقد مضاف إلى حال الحياة، وكذا لا تصلح لمَّا كان مضافًا إلى ما بعد الموت، وهو الوصية؛ لأن الفقهاء اشترطوا لصحة الوصية أن يكون المُوصَى به مالا مُتَقَوَّمًا، وأن يكون موجودًا في ملك الموصي عند إنشاء الوصية، إن كان المُوصَى به عينًا معينة بالذات، وأن يكون المُوصَى به مما يجري فيه الإرث، أو يصلُح أن يكون محلًّا للتعاقد حال حياة المُوصِي، ومما يدل على اعتبار هذه الشروط في المُوصَى به قول الله تعالى: (كُتِبَ عليكم إذا حَضَرَ أحدَكم الموتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوصيةُ.. )

ورُوي عن أبي هريرة أن رسول الله ـ ـ قال: “إنَّ اللهَ تَصَدَّق عليكم عند وفاتكم بثلُث أموالكم” وكل هذه الشروط مُفتَقَدة في حق من يُوصِي “يتبرع” بكل أعضائه أو بعضها بعد موته؛ لمُعالَجة المرضى بها بنقلها إلى أبدانهم، وذلك لأن هذه الأعضاء ليست محلاًّ للتعاقد كما سبق، وليست مما يجري فيه الإرث؛ لأنها ليست أعيانًا مالية، أو حقوقًا مالية شخصية أو عَيْنية، وليست مملوكةً للمُوصي، ولا تقبل التقويم بالمال، ولهذا فإن الوصية بها باطلة شرعًا باتفاق الفقهاء، ومن ثَمَّ فلا وجه لإيجاب تنفيذ الورثة أو غيرهم لهذه الوصية؛ لأن إلزامهم بتنفيذها فرع عن الحكم بصحتها، وهي وصية غير صحيحة باتفاق الفقهاء كما سبق.