لقد حث الإسلام على الستر، وأمر به الأحاديث النبوية تدل عليه بكثرة؛ فإن اقترف أحد الناس حدا وتاب عنه؛ فإن وصل أمر الحد للحاكم وجب عليه إقامته؛ فإن لم يقمه فالإثم عليه، وإن لم يصل وتاب صاحبه فهناك خلاف على أن التوبة تسقط العقوبة، وفي كل الأحوال إن كان الحد متعلقا بحقوق الأفراد ويجب أداء الحقوق لأصحابها.

هل التوبة تسقط الحد؟

يقول الأستاذ الدكتور عجيل النشمي أستاذ الشريعة بالكويت:
-التوبة النصوح والعهد على عدم العودة للمحرمات، كفارة لما وقع من منكرات، وهذا بين العبد وربه، فيما لا تعلق لحقوق الناس بها،
-فإن كان المنكر متعلقاً بحقوق الناس، فلابد من أدائه إن كان حقاً مالياً، فيرده إليه، وإن كان حقاً لله كالزكاة فيجب أداؤها لما مضى وما سيأتي، لأنها ديْن على صاحبها.

-وإن كان المحرم من الحدود كالزنى وشرب الخمر، فالفقهاء مختلفون، فذهب الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة إلى أن “التوبة” لا تسقط العقوبة، لقوله تعالى: ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (النور:2). ولأن النبي -- رجم ماعزاً والغامدية وقد جاءا تائبين. ورأي آخر أن الحد يسقط لقوله تعالى: (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) (النساء:16).

فالحد لا يسقط، ولكن التوبة مقبولة إن شاء الله، وعليه أن يحافظ على صدق توبته، وأما إقامة الحد، فإن كانت الدولة لا تقيمه فلا ذنب عليه من هذا التقصير العظيم، وأمره إلى الله.أ.هـ

هل حثت الشريعة على الستر؟

يقول الأستاذ الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي:
أود أن ألفت النظر إلى حقيقة مهمة في أمر الحدود، وهي: أن الإسلام لا يركض وراء إقامة الحد، ولا يتشوف إلى تنفيذ العقوبة، فيمن اقترف ما يستحقها، ولا يضع أجهزة للتصنت على العصاة، أو ينصب لهم “كاميرات” خفية تصورهم حين ارتكاب جرائمهم، ولا يسلط الشرطة الجنائية تتجسس على الناس المخالفين للشرع، حتى تقبض عليهم متلبسين!!
بل نجد توجيهات الإسلام هنا حاسمة كل الحسم في صيانة حرمات الناس الخاصة، وتحريم التجسس عليهم، وتتبع عوراتهم، لا من قبل الأفراد، ولا من قبل السلطات الحاكمة.

-روى الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف: أنه حرس ليلة مع عمر بالمدينة فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه (أي يقصدونه) حتى إذا دنوا منه، إذا باب مجاف (أي مغلق) على قوم، لهم فيه أصوات مرتفعة، فقال عمر – وأخذ بيد عبد الرحمن – : أتدري بيت من هذا؟ قال: لا، قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب (أي يشربون الخمر) فما ترى؟ قال عبد الرحمن: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه: نهانا الله عز وجل، فقال: (ولا تجسسوا) (الحجرات: 12)، فقد تجسسنا! فانصرف عمر عنهم وتركهم” (رواه الحاكم في المستدرك: 377/4، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي).

-وروى أبو داود والحاكم أيضًا عن زيد بن وهب، قال: أتى رجل ابن مسعود، فقال: هل لك في الوليد بن عقبة، ولحيته تقطر خمرًا؟! فقال: إن رسول الله – – نهانا عن التجسس؛ إن يظهر لنا نأخذه. (رواه الحاكم وصححه وسكت عليه الذهبي: 377/4، وأبو داود في الأدب – 4890).

-وروى أيضًا عن أربعة من الصحابة: جبير بن نفير، وكثير بن مرة، والمقدام بن معد يكرب، وأبي أمامة الباهلي – رضي الله عنهم – عن النبي – – قال: “إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم” (رواه أبو داود في الأدب – 4889 – كما رواه الحاكم أيضًا وسكت عليه هو والذهبي: – 378/4 – وذكره في صحيح الجامع الصغير برقم – 1885 – ونسبه أيضًا إلى أحمد والطحاوي)..

بل نرى التعاليم النبوية الصريحة ترغب أبلغ الترغيب في ستر المسلم على نفسه، وعلى غيره.

-وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – : أن رسول الله – – بعد أن أقام الحد على ماعز الأسلمي، قام فقال: “اجتنبوا هذه القاذورة، التي نهى الله عنها، فمن ألم (أي تورط في شيء منها) فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته (أي يكشف عن جريمته) نقم عليه كتاب الله” (رواه الحاكم وسكت عليه، وأشار الذهبي إلى أنه على شرط الشيخين – 383/4). يعني: حكم الله، وكان الرسول الكريم قد أقام الحدّ على ماعز، بعد أن جاء إليه أربع مرات مقرًا بجريمته، وبعد أن حاول النبي – – أن يبعد عنه التهمة، ويلقنه ما يدل على عدم استيفاء أركان الجريمة، ولكنه أصر، ومثله المرأة الغامدية.

-وقد جاء عن أبي بردة عن أبيه قال: كنا أصحاب محمد نتحدث لو أن ماعزًا وهذه المرأة، لم يجيئا في الرابعة، لم يطلبهما رسول الله – – . (رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي – 383/4 – والمعنى متفق عليه من حديث ابن عمر). وقال لهزّال – الذي دفع ماعزًا للاعتراف عند النبي – – : لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك” (ذكره الذهبي في تلخيص المستدرك – 385/4 – وقال: صحيح، وقد سقط الحديث من الأصل المطبوع، والظاهر أن الحاكم رواه وصححه).

-وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله – – : “من ستر أخاه المسلم في الدنيا، ستره الله في الدنيا والآخرة” (رواه أبو داود في كتاب الحدود برقم – 4377 – ونسبه المنذري للنسائي، ورواه الحاكم أيضًا وصححه ووافقه الذهبي – 363/4).

-وعنه عن النبي – – قال: “لا يستر عبد عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة” (رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي – 384/4).

-فإذا كان الحديث السابق في مثوبة ستر المسلم على المسلم، فهذا الحديث عام في ستر الإنسان على الإنسان: ستر أي عبد من عباد الله على آخر.

-وعن كثير مولى عقبة بن عامر: أن رسول الله – – قال: “من رأى عورة فسترها، كان كمن استحيا موءودة من قبرها” (رواه أبو داود في الأدب – 4891 – كما رواه الحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي – 384/4).