القبلة في المساجد التي بها محاريب:
والمالكية خصَّصوا المَحاريب التي لا يجوز التَّحرِّي مع وُجودها بأربعة، التي هي: مسجد النبي ـ ﷺ ـ بالمدينة، ومسجد بني أمية بالشام، ومسجد القيروان بشمالي أفريقيا، ومسجد عمرو بن العاص بمصر القديمة.
أما غير هذه المحاريب، فإن كانت بالمصر – أي بالمدينة – وأقرَّها العارفون بالقبلة جاز لمن كان أهلًا للاجتهاد والتحرِّي أن يقلِّدها، أما مَن لم يكن أهلًا لذلك فيجب عليه أن يُقلِّدها.
وإن كانت المحاريب بالقُرى فلا يجوز لمَن كان أهلًا للاجتهاد والتحري أن يقلِّدها، أما غيره فيقلِّدها وجوبًا إن لم يجد مجتهدًا يقلِّده.
والشافعية يُجوِّزون – مع وجود المحاريب – الاستدلال على القبلة بالطرق المعروفة.
القبلة في المساجد التي ليس بها محاريب:
والاجتهاد مهما كانت وسيلته ظنِّيٌّ لا يَقِيني، ولو تبيَّن خطؤه بعد الصلاة فلا إعادة ولو كان التبيُّن يقينًا عند الجمهور، وتجب الإعادة عند الشافعية، أما تبيُّن الخطأ أثناء الصلاة فإنه يَضُر، وهل يُبْطل الصلاة أويُلزم إتمامها على الظن الجديد؟ خلاف.
ثم قال العلماء: من ترك الاجتهاد وهو قادر عليه فصلاته باطلة عند الجمهور.
أحوال استقبال القبلة:
1- فمنهم مَن يَلزمه اليقين، وهو مَن كان مُعاينا للكعبة، أو كان بمكة من أهلها، أو ناشئًا بها من وراء حائل مُحدَث كالحيطان، ففرْضه التوجه إلى عين الكعبة يقينًا، وهكذا إن كان بمسجد النبي ـ ﷺ ـ؛ لأنه متيقِّن صحَّة قِبْلته، فإن النبي ـ ﷺ ـ لا يُقر على خطأ.
2- ومنهم من فرْضه الخبر – أي العلم – وهو من كان بمكة غائبًا عن الكعبة من غير أهلها ووجد مُخبرًا يُخبره، أو كان غريبًا نزل بمكة فأخبره أهل الدار، وكذلك لو كان في مصر أو قرية، ففرْضه التوجُّه إلى مَحاريبهم وقبلتِهم المنصوبة؛ لأنَّ هذه القِبَل يَنْصِبُها أهل الخبرة والمعرفة، فجرى ذلك مجرى الخبر فأغْنى عن الاجتهاد، وإن أخبره مُخبر من أهل المعرفة بالقبلة، إما من أهل البلد أو من غيره صار إلى خبره، وليس له الاجتهاد، كما يَقبل الحاكم النص من المجتهد ولا يَجتهد.
3- ومنهم من فرْضه الاجتهاد، وهو مَن عَدِمَ هاتين الحالتين، وهو عالم بالأدلَّة.
4- ومنهم من فرْضة التقليد، وهو الأعمى ومَن لا اجتهاد له وعَدِمَ الحَالَيْن، ففرْضة تقْليد المجتهدين. والواجب على هذين وسائر مَن بَعُد من مكة طلب جهة الكعبة دون إصابة العين.
قال أحمد: ما بين المشرق والمغرب قبلة. فإن انحرف عن القبلة قليلًا لم يُعِد ولكن يتحرَّى الوسط، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشافعي في أحد قوليه كقولنا، والأخر: الفرْض إصابة العين؛ لقول الله تعالى: (وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)، ولأنه يجب عليه التوجه إلى الكعبة فلزِمَه التوجُّه إلى عَيْنها كالمُعاين.
ولنا – أي دليل الحنابلة – قول النبي ـ ﷺ ـ ما بين المشرق والمغرب قبلة” رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وظاهره أن جميع ما بينهما قبلة، ولأنه لو كان الغَرَض إصابة العين لما صحَّت صلاة أهل الصف الطويل على خَط مستوٍ، ولا صلاة اثنين متباعدين يَسْتقبلان قبلة واحدة، فإنه لا يجوز أن يتوجَّه إلى الكعبة مع طُول الصفِّ إلا بقدْرها، وشطر البيت نحوه وقِبَلَه.
ثم ذكر ابن قدامة في صفْحة 495 أنَّ دلالة المُشرك على القِبْلة لا تُتَّبع بحال من الأحوال؛ وذلك لأنَّ الكافر لا يَقْبل خبره ولا روايته ولا شهادته؛ لأنه ليس بموضع أمانة، انتهى.
فهل معنى ذلك أن الآلات التي يُعرف بها اتجاه القبلة، ومنها “البوصلة” والتي صنَعها غير المسلمين لا يَجوز الاعتماد عليها؟ الأمر يحتاج إلى نظر، وبخاصة أنها منتشرة بحد كبير.
وجاء في: ” نيل الأوطار للشوكاني ج2 ص 175″ بعد ذكر حديث: ” مَا بيْن المَشْرق والمغْرب قِبْلة” قوله: والحديث يدلُّ على أنَّ الفرْض على مَن بَعُد عن الكعبة هو الجهة لا العين، وإليه ذهَب مالك وأبو حنيفة وأحمد، وهو ظاهر ما نَقَله المُزَنِي عن الشافعي، وقد قال الشافعي أيضًا: إن شطر البيت وتِلْقاءه وِجهتَه واحد في كلام العرب. ثُم ذكر أنَّ أظْهرَ القوْلَين للشافعي أنَّ فرْض مَن بَعُد عن مكة هو العين، وأنه لَزِمَه ذلك بالظنِّ.