الوضوء عبادة، والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني بخلاف المعاملات إذ الأصل فيها الالتفات إلى الحكم والمقاصد، غير أن من يتأمل في الوضوء خاصة والعبادات عامة يخرج بحكم ومقاصد سامية تتفق مع الفطرة النقية والعقل السليم.

يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الطهارة :

لم يفرض الله على عباده شيئا إلا لحكمة، فهو لا يشرع شيئا اعتباطا ولا عبثا، كما لا يخلق شيئا باطلا. وقد نعلم هذه الحكمة، وقد تخفى علينا، أو على بعضنا، ولكن جهلنا بها لا ينفي وجودها.

وللوضوء الذي فرضه الله على المسلمين إذا قاموا إلى الصلاة: حكم وفوائد وآثار طيبة، بعضها أخروي، وبعضها دنيوي، بعضها روحي، وبعضها مادي، وبعضها نفسي، وبعضها بدني.

فمن الآثار الروحية أو الأخروية: ما صحت به الأحاديث من أن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء: خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره. ونحن لا نرى الخطايا تخرج من تحت الأظفار، لأننا لم نؤت من الحواس ما نبصر به الخطايا، ولكنا نؤمن بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن عثمان رضي الله عنه: أنه توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: من توضأ مثل وضوئي هذا، ثم أتى المسجد فركع ركعتين، ثم جلس، غفر له ما تقدم من ذنبه.

قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تغتروا”.(أي لا تغتروا بهذا العمل وتسرفوا في المعاصي)  رواه البخاري  وغيره.

وعنه رضي الله عنه أيضا أنه دعا بماء فتوضأ، ثم ضحك، فقال لأصحابه: ألا تسألوني ما أضحكني؟ فقالوا: ما أضحكك يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله توضأ كما توضأت ثم ضحك، فقال: “ألا تسألوني ما أضحكني؟” فقالوا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: “إن العبد إذا دعا بوضوء فغسل وجهه حطّ الله عنه طل خطيئة أصابها بوجهه، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك، وإذا طهر قدميه كان كذلك”. رواه أحمد بإسناد جيد، وأبو يعلى، ورواه البزار بإسناد صحيح ، وزاد فيه: “فإذا مسح رأسه كان كذلك”.

وعن عمرو بن عنبسة السلمي رضي الله عنه قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت رجل في مكة يخبر أخبارا، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث إلى أن قال: فقلت: يا نبي الله، فالوضوء حدّثني عنه؛ فقال: “ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيمضمض ويستنشق فستنثر، إلا خرت خطايا وجهه من فيه وخياشيمه؛ ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه مع أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل رجليه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء؛ فإن هو قام وصلى، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ومجّده بالذي هو له أهل، وفرّغ قلبه لله تعالى، إلا انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه”.  رواه مسلم.

هذه الأحاديث النبوية في فضل الوضوء وآثاره في إخراج الخطايا مع ماء الوضوء من جسد المتوضئ: لها أثرها كذلك في نفس المتوضئ، بما يشعر به من رضا وانشراح صدر، وسكينة نفس، بما أدى من واجب، وما حصل من فضل الله تعالى ومثوبته. حتى إنك لتسمع من كثير من المسلمين قولهم: الوضوء سلاح المؤمن. فهو يحس كأن الوضوء عدة وقوة له.

الأثر الصحي والوقائي للوضوء:

ولا يقف الأمر عند هذا الجانب النفسي، بل نرى للوضوء آثاره في الجانب الصحي والوقائي للمسلم. بما يهيئه من نظافة الأعضاء التي تتعرض للأتربة والتلوث والاتساخ من جسم الإنسان، مثل الوجه والفم والأنف واليدين والرأس والأذن والرجلين، فالمسلم إذا توضأ: بدأ بغسل اليدين إلى الرسغين، ثم تمضمض فنظف فمه، واستنشق فنظف أنفه، واستخدم السواك فنظف أسنانه، وغسل وجهه، ثم غسل يديه إلى المرفقين، ثم مسح رأسه وأذنيه، وغسل رجليه، ويسن له أن يغسل كل عضو ثلاث مرات، اقتداء برسوله صلى اله عليه وسلم، وأن يخلل أصابع يديه ورجليه، وهو يكرر ذلك عدة مرات في كل يوم، قد تكون ثلاث مرات أو أربعا أو خمسا بعدد صلوات اليوم.

وهذا لا شك له أثره الصحي على هذه الأعضاء المتوضئة الطاهرة، وعلى الجسم كله معها، ويقي المسلم من أمراض كثيرة قد يتعرض لها غيره ممن لا يعرفون الوضوء.

وقد أسهب الأطباء المعاصرون في بيان المقاصد والفوائد الصحية للوضوء، لعنايته بتنظيف أعضاء مهمة معرضة للتلوث، وكذلك اهتمامه بتنظيف الفتحات التي يتصل بها البدن مع الخارج: كالفم والأنف والأذنين والعينين، فالوضوء يعمل على تنظيفها بعناية، لإزالة المؤثرات الداخلية وبقايا الطعام، حتى لا تتخمر تلك النفايات، وتصبح مرتعا لتكاثر الجراثيم والفطريات.

كما يساعد الوضوء على الوقاية من سرطانات الجلد، التي يتعرض لها العاملون في البترول والمناجم وغيرها.

كما أن دلك الأعضاء ـ وهو فرض عند مالك وسنة عند غيره ـ يعين على  تنبيه الدورة الدموية، وتنشيط … الأعضاء المدلوكة، مما يؤدي إلى نشاط الجسم كله، ويخفف كثيرا من احتقان الدماغ عند المشتغلين بالأعمال الذهنية.

وقد ذكرت إحدى المحاضرات المتخصصات في موسكو أثر الوضوء على الشعوب الإسلامية في بقاء الوجه في نضرة وحيوية حتى عند الشيوخ منهم.

وللوضوء أثره على كل عضو من الأعضاء التي تغسل أو تمسح، لا يتسع المجال لذكرها هنا، وأنصح الراغبين في المعرفة أن يقرأوها في كتب المتخصصين، مثل كتاب (روائع الطب الإسلامي: العبادات وأثرها في صحة الفرد والمجتمع) للدكتور محمد نزار الدقر.

وأكتفي هنا بملاحظة قيمة نبه عليها، وذكرها أحد المختصين في العلاج الطبيعي (مختار سالم) وهي: أن الوضعية التي يتخذها الإنسان أثناء غسله لقدميه، تجعله مجبرا على تحريك عضلات جسمه جميعا، بما فيها عضلات الأطراف والجذع والحوض. كما أن الوقوف على قدم واحدة عند غسل القدم الأخرى: تمرين بدني جيد، ينمي ويطور درجة الاتزان العصبي تدريجيا مع كل وضوء. وتعتبر الحركات التي نؤديها أثناء الوضوء بمثابة (تمرينات تمهيدية) أو تسخين، لتنشيط وإحماء الجسم، استعدادا للوقوف بين يدي الله لأداء الصلاة بهمة ونشاط.

ومما يذكر هنا: ما حدث لعمال مصانع شركة المحلة الكبرى للغزل والنسيج، أول إنشائها، فقد أصيب كثير من العمال بأمراض صدرية نتيجة العمل في غزل القطن وما يتعلق به، على حين لم يصب آخرون من زملائهم.

وأرسلت لجنة من المسؤولين لدراسة الموضوع، وكيفية الوقاية منه، فتبين للجنة: أن العمال المتدينين المحافظين على الصلاة والوضوء، المداومين على المضمضة والاستنشاق ـ لا سيما الاستنشاق ـ سلموا من هذه الأمراض، نتيجة الوضوء وتكرار الاستنشاق عدة مرات في اليوم والليلة، فكان ذلك سببا في معافاتهم من أمراض الصدر.

أما العمال غير المتدينين، الذين لا يحرصون على الصلاة والوضوء، فأصيبوا بما أصيبوا به. وقد شاع بين العمال حينئذ: أن الصلاة تحمي الإنسان من أمراض الصدر! جعلوها من باب الكرامات وخوارق العادات، والواقع أنها تحمي الإنسان وفق سنن الله تعالى في خلقه.

ومما أذكره هنا ما حكاه لي بعض الإخوة من الشباب الذين ذهبوا في رحلة إلى أوربا، ونزلوا ضيوفا على ما يسمونه هناك (بيوت الشباب). وقد نزل بعض الشباب المسلم مع بعض الشباب الأوربي في حجرة أو عنبر واحد. وحينما دخل الأوربيون شكا زملاؤهم العرب المسلمون من سوء رائحتهم، فتأسفوا لهم، وقالوا: هذا من رائحة الجوارب التي عرقوا فيها، فخلعوا جواربهم، ولم تزل الرائحة الكريهة موجودة، فطالبوهم بغسل أقدامهم، فاستجابوا لهم. ثم سأل هؤلاء الأوربيون زملاءهم المسلمين: ولماذا لا نجد عندكم مثل هذه الرائحة؟ فقالوا لهم: لأننا نصلي كل يوم خمس مرات، ومن شروط الصلاة عندنا: أن نتوضأ قبلها. ومن أركان الوضوء غسل الرجلين، وهذا ما يجعل أرجلنا نظيفة طيبة الرائحة باستمرار. وكان هذا فرصة للحديث عن فضائل الإسلام في عباداته وشرائعه، وتلقي الأسئلة من هؤلاء الشباب حوله، فلعل هذا يكون سبيلا إلى هدايتهم إلى الإسلام.