اختلف العلماء في حكم فضلة الماء، التي تبقى من ( الحمير والبغال والسباع والنسر والجوارح) مما يطلق عليه سباع البهائم والطير، فذهب بعضهم إلى أنها نجسة نظرا لنجاسة الحيوان نفسه، بينما ذهب آخرون إلى طهارتها، وهو ما رجحه الشيخ ابن العثيمين- رحمه الله-.
يقول العلامة الشيخ ابن العثيمين شارحا قول صاحب كتاب (زاد المستقنع) -أبو النَّجا موسى الحجاوي- : قوله: “وسؤرُ الهِرَّة وما دونها في الخِلْقَة طاهر” السُّؤر: بقيَّة الطَّعام والشَّراب، ومنه كلمة سائر: بمعنى الباقي.
والدَّليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الهِرَّة: “إنَّها ليست بنجس، إنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات”.
فحكم بأنها ليست بنجس،والطَّهارة والنَّجاسة نقيضان فيلزم منه أنها طاهرة؛ إذ ليس بعد النجاسة إلا الطَّهارة.
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: “إنها ليست بنجس، إنها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات”.
الطَّوَّافُ من يُكثر التِّرداد، ومنه الطَّوَاف بالبيت، لأنَّ الإنسان يكثر الدَّوران عليه.
وقوله: “وما دونها في الخِلْقَة طاهر”. والدَّليل: القياس على الهِرَّة.
والقياس: إلحاق فرع بأصل في حكمٍ لِعِلَّة جامعة. وإذا كانت العِلَّة في الهِرَّة هي التِّطواف وجب تعليق الحكم به؛ لأن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لم يعلِّل بكونها صغيرة الجسم، ولو علَّل بذلك لقلنا به وجعلناه مَنَاط الحكم. فكون العِلَّة صغر الجسم غير صحيح؛ لأنه إثبات علَّة لم يعلِّل بها الشَّارع، وإلغاءٌ لِعِلَّة علَّل بها الشَّارع، فالعلَّة هي التِّطواف، وهي علَّةٌ معلومة المناسبة، وهي مشقَّة التَّحرُّز، فيجب أن يُعلَّق الحكم بها.
وأيضاً: لو أردنا أن نقيس قياساً تامًّا؛ على تقدير كون العلَّة صغر الجسم، لوجب أن نقول: سؤر الهرَّة، ومثلها في الخلقة طاهر، لا أن نقول: وما دونها، لأن الفرع لا بُدَّ أن يكون مساوياً للأصل، ولا يظهر قياس ما دونها عليها قياساً أولويًا
وظاهر كلامه: أن ما كان قَدْرها من السِّباع التي لا تؤكل نجس.
والرَّاجح: أن العِلَّة التي يجب أن تُتَّبع مَا علَّل به النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وهي: أنَّها من الطَّوافين علينا.
وعلى هذا: كلُّ ما يكثر التطواف على الناس؛ مما يشقُّ التَّحرُّز منه فحكمه كالهَّرة.
لكن يُستثنى من ذلك ما استثناه الشَّارع، وهو لكلب، فهو كثير الطَّواف على النَّاس، ومع ذلك قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: “إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبعاً إحداهن بالتُّراب”.
قوله: “وسباع البهائم” يعني: نجسة.
وسباع البهائم: هي التي تأكل وتفترس كالذِّئبِ، والضَّبُعِ، والنَّمِر، والفَهْدِ، وابن آوى، وابن عُرس، وما أشبه ذلك مما هو أكبر من الهِرَّة.
قوله: “والطير”. أي: وسباع الطَّير كالنسر، التي هي أكبر من الهرة.
قوله: “والحمارُ الأهليُّ” احترازاً من الحمار الوحشيِّ، لأن الوحشيَّ حلالُ الأكل فهو طاهر.
وأما الأهليُّ فهو محرَّمٌ نجِسٌ كما في حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمر أبا طلحة أن يُناديَ يومَ خيبر: “إنَّ الله وَرسولَه ينهيانكم عن لحوم الحُمُر الأهليَّة، فإنها رجس أو نجس”
قوله: “والبغل منه: نَجِسةٌ” أي: من الحمار الأهليِّ، والبغل: دابَّة تتولَّد من الحمار إذا نَزَا على الفرس.
وتعليل ذلك: تغليب جانب الحظر؛ لأن هذا البغل خُلِقَ من الفرس والحمار الأهليِّ، على وجه لا يتميَّز به أحدهما عن الآخر؛ فلا يمكن اجتناب الحرام إلا باجتناب الحلال.
فإن كان من حمار وحشيٍّ، كما لو نزا حمارٌ وحشيٌّ على فرس، فإن هذا البغل طاهرٌ، لأن الوحشيَّ طاهرٌ، والفرسَ طاهرٌ، وما يتولَّدُ من الطاهر فهو طاهر.
وإذا كانت هذه الأشياء نجسة، فإن آسارَها ـ أي: بقيةُ طعامها وشرابِها ـ نجسةٌ.
فلو أن حماراً أهليًّا شرب من إناء، وبقي بعد شربه شيء من الماء، فإنه نجس على كلام المؤلِّف.
وذهب كثيرٌ من أهل العلم إلى أن آسار هذه البهائم طاهرةٌ إذا كانت كثيرةَ الطَّواف علينا ،وعلَّلوا: بأن هذا يشقُّ التَّحرُّز منه غالباً، فإنَّ النَّاس في البادية تكون أوانيهم ظاهرةً مكشوفةً، فتأتي هذه السِّباعُ فتردُ عليها، وتشرب. فلو ألزمنا النَّاس بوجوب إراقة الماء، ووجوب غسل الإناء بعدها لكان في ذلك مشقَّة.
والأحاديثُ في ذلك فيها شيء من التَّعارض. فبعضها يدلُّ على النَّجاسة، وبعضها يدلُّ على الطَّهارة.
فممَّا وَرَدَ يدلُّ على الطَّهارة، حديث القُلَّتين الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سُئِلَ عن الماء، وما ينوبُه من السِّباع؟ فقال: “إذا بلغ الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَث” ولم يقل بأن هذه طاهرة، بل جعل الحكم منوطاً بالماء، وأنه إذا بلغ قُلَّتين لم يحمل الخبث، فدلَّ ذلك على أن ورود هذه السِّباع على الماء يجعله خبيثاً لولا أن الماء بلغ قلتين.
وفيه أحاديث أخرى، وإن كان فيها ضعف،لكن لها عِدَّة طرق تدلُّ على أن آسار البهائم طاهرة، حيث سُئِلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عن ذلك فقال: “لها ما حملت في بطونها، ولنا ما غَبَرَ طَهور” وهذا يدلُّ على الطهارة.
ويمكن الجمع بين الحديثين، فيُقالُ: إن كان الماء كثيراً لا يتغيَّر بالشُّرب فلا بأس به، ويكون طَهوراً. وإن كان يسيراً ، وتغيَّر بسبب شربها منه؛ فإنه نجس.
وقال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ : إنَّ الحمار والبغل طاهران؛ لأنَّ الأمة تركبهما، ولا يخلو ركوبهما من عَرَقٍ، ومن مطر ينزل، وقد تكون الثياب رطبة، أو البدن رطباً، ولم يأمر النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمَّته بالتحرُّز من ذلك. وهذا هو الصَّحيح.
وعلى هذا فسؤرهما، وعرقهما، وريقهما، وما يخرج من أنفهما طاهر، وهذا يؤيِّد ما سبق أنْ ذكرناه في حديث أبي قتادة في الهِرَّة ، فإن الحمار بلا شكٍّ من الطَّوَّافين علينا، ولا سيَّما أهل الحُمُر الذين اعتادوا ركوبها، فالتحرُّز منها شاقٌّ جدّاً.
فإن قيل: الكلاب أيضاً لمن له اقتناؤها كصاحب الزَّرع، والماشية والصَّيد، يكثر تطوافها عليهم؟
فالجواب: أن َّالكلاب فيها نصٌّ أخرجها وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : “إذا ولغ الكلب…” الحديث.
وهذا يدلُّ على نجاسة سؤر الكلب، حتى وإن كان من الطَّوَّافين.