في “تفسير الجصاص”: “قال ابن عباب وعكرمة والضحاك والسدي: المقصود بالهجر: هجر الكلام. وقال سعيد بن جبير: هجر الجماع. وقال مجاهد والشعبي: هجر المضاجعة. [تفسير القرآن وأحكام القرآن للجصاص، ج2 ص189].
وفي تفسير القرطبي: “الهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها، عن ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: جنبوا مضاجعهن” [تفسير القرطبي أحكام القرآن، ج5 ص171].
وفي تفسير الرازي: “فإن أصرّت على النشوز؛ فعند ذلك يهجرها في المضطجع وفي ضمنه امتناعه من كلامها. قال الشافعي: ولا يزيد في هجره الكلام ثلاثًا، وأيضًا إذا هجرها في المضطجع، فإن كانت تحب الزوج شقَّ ذلك عليها فتترك النشوز، وإن كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران، فكان ذلك دليلاً على كمال نشوزها”. [تفسير الرازي، ج10 ص90].
في تفسير المنار: لا يتحقق هذا بهجر المضجع نفسه وهو الفراش، ولا بهجر الحجرة التي يكون فيها الاضطجاع، وإنما يتحقق بهجر في الفراش نفسه. وفي الهجر في المضطجع نفسه معنى لا يتحقق بهجر المضطجع أو البيت، لأن الاجتماع في المضطجع هو الذي يهيج شعور الزوجية فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر، ويزول اضطرابهما الذي أثارته الحوادث قبل ذلك. فإذا هجر الزوج زوجته وأعرض عنها في هذه الحالة احتمل أن يدعوها ذلك الشعور والسكون النفسي إلى سؤاله عن السبب ويهبط من نشز المخالفة إلى مستوى الموافقة. [تفسير المنار، ج5 ص73].
ويقول د/عبد الكريم زيدان في “المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم”: الراجح في معنى الآية هجرها في المضجع نفسه، أي هجرها في مكان النوم الذي ينامان فيه عادة؛ بأن يوليها ظهره ولا يجامعها ولا يكلمها إلا بقدر قليل جدًا حتى لا يضطر إلى كلامها إلا بعد ثلاثة أيام، لأنه لا يجوز عدم كلامها أكثر من ثلاثة أيام.
ولأن هذا الهجر في فراش النوم وعدم جماعها وعدم التحدث معها إلا قليلاً يُشعر الزوجة بجدية الزوج في تصرفه وهجره لها، وأن هناك ما يزعجه منها حقًا إلى درجة أنه لا يرغب في وطئها وهي في فراش النوم، وأنه قادر على حبس نفسه عن وطئها وقد يُحملها ذلك كله على ترك نشوزها والرجوع عن عصيانها.
رؤية الطب النفسي
لنستعرض مراحل اللقاء الجنسي كما ذُكرت في التصنيف الأمريكي الأخير للأمراض النفسية اهتداءً بما قرره “ماستر وجونسون” في دراستهما الشهيرة:
1- المرحلة الأولى: مرحلة الرغبة، وهي توصف بأنها مرحلة تعبر عن دوافع الإنسان وأشواقه وشخصيته، وأنها تتميز بالخيالات الجنسية والرغبة في ممارسة الجنس.
2- المرحلة الثانية: مرحلة الإثارة، وهي تتكون من شعور شخصي [ذاتي] بالنشوة الجنسية، وتكون مصحوبة بتغيرات فسيولوجية.
3- المرحلة الثالثة: مرحلة ذروة المتعة، وهي تتميز بالوصول لقمة النشوة الجنسية.
4- المرحلة الرابعة: مرحلة الاسترخاء، وتتميز بالإحساس العام بالراحة.
فالعامل النفسي يكاد يكون القاسم المشترك لكل المراحل إن لم يكن هو العامل الأساسي.
وكأن النصوص التي ذكرناها سابقًا إذا توازت مع تلك المراحل الأربع تتحدث عن الهجر على مقصودات ثلاث:
هجر المضاجعة: أي ترك النوم مع الزوجة في فراش واحد.
هجر الجمـاع : أي النوم معها في نفس الفراش، ولكن دون جماع عمدًا.
هجر الكــلام: وهو إضافة عدم الكلام إلى عدم الجماع والمضاجعة.
وفي هذا رد مبدئي على من يرى أن للجنس جانباً واحداً هو الجسدي البيولوجي، بينما الجنس عملية شديدة التركيب يتداخل في إنجازها الجسدي مع النفسي، والروحي مع المادي بشكل يضيق المقام عن التفصيل فيه.
وكما يبدو فإن سلفنا الصالح قد فهموا هذا التركيب حتى اعترض بعضهم على “العزل” – وهو أن ينزل الرجل ماءه خارج مهبل زوجته –، لأنه يؤذي المرأة “نفسيًا”.
والأبحاث العلمية الحديثة تؤكد على الدور الكبير للناحية النفسية في العلاقة الجنسية، ودور الاضطراب النفسي في غياب التوافق الجنسي.
بل إن هذه الأبحاث ترسم منحنى لمراحل اللقاء الجنسي يتوازى فيها الانفعال النفسي مع الأداء الجسدي، ويتكامل معه، بحيث إن أي خلل في أحدهما يؤثر على الآخر، ومن المعروف أن الأمراض النفسية مثل الاكتئاب والقلق بأنواعها تؤثر على الأداء الجنسي للزوجين بشكل قد يصل إلى الفشل الكامل، ولذا أصبح باب الاضطرابات الجنسية من أهم الأبواب التي يتواصل تضخمها في مكانها وسط فروع تخصص الطب النفسي.
وعليه فإن الهجر في المضاجع ليس عقابًا جسديًا، كما نجد في اعتقاد الكثيرين، بل هو تعبير نفسي جسدي يقول به الرجل لزوجته: إنه لا يرغب في معاشرتها لما بدر عنها مما اعتبره هو “نشوزًا”؛ حتى إن غضبه منها غلب رغبته فيها، وسكنه إليها. لأنها لما لم تطعه، أو بدر منها ما خاف معه نشوزها أصبح هذا متنافيًا مع معنى السكن الذي هو من لوازم ومقاصد الحياة الزوجية فكأنه يقول لها: لا يمكن أن يسكن الإنسان لمن يغضبه، ويعبّر عن هذه الحالة من “عدم السكن” تعبيرًا معنويًا بعدم الكلام أو الملاطفة، وتعبيرًا ماديًا بهجر الجماع أو الفراش أو هجرهما معًا.
وهو أيضًا يسألها بهجره هذا: هل تريدين الاستمرار أم لا؟!
“فإن كانت تحب الزوج شق ذلك عليها فتترك النشوز، وإن كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران، فكان ذلك دليلاً على كمال نشوزها”.
ولا يبعد أن في الهجر ألماً للرجل أيضًا، لكنه حين يتخذ القرار بالهجر لا بد أن يعرف أنه يختار أخف الأضرار بين ألم مؤقت–إذا انصلح الحال- وبين ألم أشد بالحياة مع زوجة لا تريده، ولا تطيعه، أو فراقها للأبد وفي هذا خراب للبيت، ومعاناة للأطفال، وبالتالي ألم للنفس.
إذن.. الهجر في المضجع تدبير وقائي صعب يُستخدم للضرورة، وهو يحمل تصعيدًا للخلاف، ونقله في العلاقة الزوجية، فالأصل أن الخلافات تحل بالحوار الذي قد يصل إلى الوعظ أو الزجر، وهو ما تحدثت عنه نفس الآية، لا الهجر والخصام، واللجوء إلى هذا التدبير يعني أنه “لم يعد يجدي الكلام”، فليحذر الأزواج والزوجات أن يصل الوضع بينهما إلى هذه الدرجة، لأن الدخول فيها أو الخروج منها صعب على الطرفين.
وقد يكون في الهجر فرصة للرجل أن يُراجع نفسه وموقفه لعل ما بدر من زوجته لم يكن يستحق الهجر فيعود إلى الوعظ والكلام، أو أنها كانت تستحق الهجر وزيادة، وعندها ينتقل إلى التدبير التالي وهو الضرب…وهو مبحث آخر يستحق النقاش.
ولنا –من قبل ومن بعد- في رسول الله أسوة حسنة فهو قد غضب من زوجاته غير مرة، وقد فعلن ما أثار غضبه مرات، ولكنه -ﷺ- لم يهجر إحداهن أبدًا على فعلٍ أغضبه، إلا بأمر من الله في موقف التوسعة في النفقة، ونحسب أن الذي يهجر زوجته لغير ضرورة قصوى تجعل الهجر أخف الأضرار يكون مخالفًا لسنة رسول الله الفعلية، وسيرته العملية.