يقول الدكتور السيد صقر – رحمه الله تعالى -:
من مات وفي ذمته صلاة فرض أو عدة صلوات، فإنه لا يشرع القضاء عنه، لأن الأصل في العبادات عدم إجزاء النيابة والتوكيل فيها، فلا يخرج من هذا الأصل إلا ما ورد النص من الشارع على مشروعية النيابة فيه، مثل: الحج، والصوم الواجب ، والزكاة.
أما صلاة الفرض، فلم يرد فيها دليل يبيح النيابة فيها، ولا يصح قياسها على الحج ، لأنها عبادة ، والقياس في العبادات غير مستساغ.
وفي موطأ الإمام مالك بن أنس أنه بلغه عن ابن عمر رضي الله عنهما: ” أنه لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد”.
وأثر ابن عمر هذا وإن كان غير مسلم في الصوم، لوجود الدليل الخاص فيه، إلا نه مسلم في الصلاة.
وعلى هذا، فمن مات والده، وقد فاتته صلوات فرض، سواء فاتته في مرضه، أو في صحته، نقول له: ليس عليك قضاء، وإنما واجبك نحوه الدعاء والاستغفار له، وإنفاذ وصيته من بعده، وإكرام صديقه، وصلة الرحم التي لا صلة لك بها إلا به.
وأفضل ما يقدم الولد لوالده الميت الدعاء له، والصدقة الجارية عنه ( الوقف ) لورود الحديث الصحيح في ذلك.
وأما الزكاة : فإن الزكاة لا تسقط عن الميت إذا مات بعد وجوبها، لأنها حق مالي تعلق بملكه ، ففي الفروع لابن مفلح:
ولا تسقط زكاة بالموت عن مفقود وغيره، وتؤخذ من التركة نص عليه ولو لم يوص بها كالعشر فإن أوصى بها فمن ثلثه عند أبي حنيفة ومالك. انتهي.
وأما الصيام : فقد أجمع أهل العلم على أنه لا يصوم أحد عن أحد في حياته، وأنه لو صام عنه ما اجزأه ولا أسقط عنه الواجب.
وأما الميت ففي الصيام عنه خلاف ، وأكثر أهل العلم على جواز الإطعام عن الغير إن مات ولم يصم صوما كان واجبا عليه وليس له عذر، وأن الذي مات قبل الصيام لعذر فلا شيء عليه، أي أن الصوم يسقط عنه. وقيل يستحب الصوم عنه .
قالالإمام النووي الشافعي -يرحمه الله- في شرحه على مسلم:
اختلف أهل العلم فيمن مات وعليه صوم واجب من رمضان أو قضاء أو نذر أو غيره هل يقضى عنه؟
وللشافعي في المسألة قولان مشهوران، أشهرهما: لا يصام عنه ولا يصح عن ميت صوم أصلاً .
والثاني: يستحب لوليه أن يصوم عنه ويصح صومه عنه ويبرأ به الميت ولا يحتاج إلى إطعام عنه.
وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده وهو الذي صححه محققو أصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة (يقصد ما رواه مسلم وغيره “من مات وعليه صوم صام عنه وليه”).
وأما الحديث الوارد: من مات وعليه صيام أطعم عنه. فليس بثابت، ولو ثبت أمكن الجمع بينه وبين هذه الأحاديث بأن يحمل على جواز الأمرين، فإن من يقول بالصيام يجوز عنده الإطعام فثبت أن الصواب المتعين تجويز الصيام وتجويز الإطعام والولي مخير بينهما….
هذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وممن قال به من السلف طاووس والحسن البصري والزهري وقتادة وأبو ثور وبه قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد -خصوه- في صوم النذر دون رمضان وغيره.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يصام عن ميت لا نذر ولا غيره حكاه ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس وعائشة ورواية عن الحسن والزهري وبه قال مالك وأبو حنيفة قال القاضي عياض هو قول جمهور العلماء، وتأولوا الحديث على أنه يطعم عنه وليه وهذا تأويل ضعيف بل باطل وأي ضرورة إليه وأي مانع يمنع من العمل بظاهره مع تظاهر الأحاديث مع عدم المعارض لها. انتهى
وقال في المجموع :-
أما مذاهب العلماء فيمن مات وعليه صوم فاته بمرض أو سفر أو غيرهما من الأعذار ولم يتمكن من قضائه حتى مات . فمذهب الشافعية أنه لا شيء عليه ولا يصام عنه ولا يطعم عنه بلا خلاف عندهم .
وبهذا المذهب قال أبو حنيفة ومالك والجمهور .
قال العبدري : وهو قول العلماء كافة إلا طاوسا وقتادة فقالا : يجب أن يطعم عنه لكل يوم مسكين ؛ لأنه عاجز فأشبه الشيخ الهرم .
واحتج البيهقي وغيره من أصحابنا الشافعية لمذهبنا بحديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : {وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } رواه البخاري ومسلم .
واحتجوا أيضا بالقياس على الحج كما ذكره المصنف , وفرقوا بينه وبين الشيخ الهرم بأن الشيخ عامر الذمة ومن أهل العبادات بخلاف الميت . انتهى.
وقال الشيرازي من فقهاء الشافعية في المهذب:
لو كان عليه قضاء شيء من رمضان فلم يصم حتى مات نظرت فإن أخره لعذر اتصل بالموت – لم يجب عليه شيء ؛ لأنه فرض لم يتمكن من فعله إلى الموت فسقط حكمه كالحج انتهى.
وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني :
من مات وعليه صيام من رمضان ، لم يخل من حالين :
أحدهما ، أن يموت قبل إمكان الصيام ، إما لضيق الوقت ، أو لعذر من مرض أو سفر ، أو عجز عن الصوم ، فهذا لا شيء عليه في قول أكثر أهل العلم ، وحكي عن طاوس وقتادة أنهما قالا : يجب الإطعام عنه ؛ لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه ، فوجب الإطعام عن ، كالشيخ الهرم إذا ترك الصيام ، لعجزه عنه .
ودليل الجمهور أنه حق لله تعالى وجب بالشرع ، مات من يجب عليه قبل إمكان فعله , فسقط إلى غير بدل ، كالحج . ويفارق الشيخ الهرم ؛ فإنه يجوز ابتداء الوجوب عليه ، بخلاف الميت .
الحال الثاني ، أن يموت بعد إمكان القضاء ،فالواجب أن يطعم عنه لكل يوم مسكين . وهذا قول أكثر أهل العلم . انتهى.
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي :-
إذا مات المريض أو المسافر، وهما على حالهما من المرض والسفر، لم يلزمهما القضاء، لعدم إدراكهما عدة من أيام أخر.
وإن صح المريض، وأقام المسافر، ثم ماتا، لزمهما القضاء بقدر الصحة والإقامة لإدراكهما العدة بهذا المقدار.
ومعنى اللزوم هنا أنه أصبح في ذمته، وتبرأ ذمته بأحد أمرين:.
1- إما بصيام وليه عنه، لحديث عائشة في الصحيحين مرفوعا: “من مات وعليه صيام، صام عنه وليه” (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان -704). ورواه البزار، بزيادة لفظ “إن شاء” (قال في مجمع الزوائد -179/3: وإسناده حسن).
فصيام الولي عن الميت من باب البر به لا الوجوب عليه، ويؤيد ذلك ما رواه الشيخان، عن ابن عباس: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: “نعم فدين الله أحق أن يقضى” (اللؤلؤ والمرجان -705).
ومن المعلوم أن الإنسان ليس مُطالبًا بقضاء دين غيره إلا من باب البر والصلة، لأن الأصل براءة الذمم، وأن المكلف غير ملزم بأداء ما يثبت في ذمة غيره. فالصحيح جواز الصيام عن الميت لا وجوبه، وبه تبرأ ذمة الميت.
2- وإما بالإطعام عنه، أي بإخراج طعام مسكين من تركته وجوبًا، عن كل يوم فاته لأنه دَيْن لله، تعلق بتركته، ودَيْن الله أحق أن يقضى.
واشترط بعض الفقهاء أن يكون قد أوصى بذلك، وإلا لم يخرج من تركته شيء لأنها حق الورثة.
والصحيح أن حق الورثة من بعد وصية يوصي بها أو دَيْن وهذا دَيْن، لأنه حق المساكين في ماله .