كُلُّ مجتمعٍ فيه إيجابيات وسلبيات، والمجتمع الصالح هو ما كثرت إيجابياته وقلت سلبياته، والصلاح متفاوت ليس على درجة واحدة، فما كانت إيجابياته تسعين في المائة يكون أصلح مما كانت إيجابياته سبعين في المائة وهكذا، والإنسان وهو أساس المجتمع ليس معصومًا من الخطأ، فإنه ابن آدم الذي أكل من الشجرة، ولكن الخير في مُبادرة المُخطئ بالتوبة وإصلاح خطئه، والحديث في ذلك معروف “كلُّ ابن آدم خطاءٌ، وخير الخطائين التوابون” رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم.
والمدنية الغربية الحاضرة فيها الإيجابياتُ والسلبياتُ، وإيجابياتها المادية أكثر من سلبياتها المادية، لكن في الناحية الروحية تقل الإيجابيات بدرجة كبيرة، مع تفاوت فيها بين الدول، وعلى الرغم من ذلك فإن العالم كلِّه في حاجة بعضه إلى بعض، والمجتمع الصالح هو الذي يأخذ من المجتمعات الأخرى ما هو صالح بمقياس دينه الذي قرَّر الله أن من تمسك به كان هو الفائز بالسعادة في الدارين (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاي فَلا يَضِلُّ ولَا يَشْقَى . وَمَن أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَه مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرَه يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى) (سورة طه : 123، 124) والرسول ـ ﷺ ـ أخذ برأي سلمان في حفر الخندق وهو منقول عن حضارة الفُرْس، وكذلك الخلفاء الراشدون أخذوا بالنُّظم الأجنبية في الإدارات وغيرها ما دامت فيها مصلحة، ولم تتعارض مع الدين.
ومن المعلوم أن المدنية الغربية الآن لا تلتزم بتعاليم الدين الإسلامي، وموقفها منه معروف، وبعض دولها لا ديني يكفر بالأديان كلها، وبعضها لا يلتزم بالدين الذي يدين به على الرغم من أنه دين منسوخ لا يعتد به بعد الإسلام (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (سورة آل عمران : 85) . وهي لم تُوَفِّر للإنسان سعادته لا في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الآخرة فلأنها لا تُؤْمِن بالإسلام، وأما في الدنيا فلأن المظاهر المادية إن لم توجهها قيادات روحية كانت كالسهام الطائشة لا تصيب هدفًا، بل تضر أكثر مما تفيد. ويكفي دليلاً على انحرافها تنافسها في الغلب وفي استعمار الدول الأخرى، لا فرق بين المسلمين منها وغير المسلمين.
وإذا كانت شهادة المسلم على إفلاس المدنية الغربية مُتهمة فإن كبار المفكرين منهم شهدوا على ذلك، ضاربين الأمثلة بشيوع الإلْحاد الذي مَزَّق النَّفس بالشك والحَيْرَة ودَعَا إلى الانتحار على الرغم من الرَّخاء المادي، وبالتفرقة العنصرية حَتَّى في أرقى الدول حضارة، وبالانحلال الخُلقي والاستهتار بالقيم الذي منع استقرار الأسرة وأغرى بارتكاب الفواحش، وباستخدام العلم في استنباط وسائل الدمار.
يقول “ماكس نوردو” الألماني في كتابه “الأكاذيب المُتفق عليها في مدنيتنا الراهنة”:
الإنسانية دائبة وراء البحث عن العلم والسعادة، ولكنها لم تكن في عهدٍ من عهودها أبعد عن الارتياح إليها والغِبْطَة بها مما هي عليه في هذا العصر، فلو سألت أي إنسان، أو أي بيت هل تحس بالسعادة لقال لك: أبحث عنها بعيدًا عنا، وانظر الإلحاد وما فشا فيه من تشاؤم بلغ قمته في فلسفة “شوبنهور” وتلميذه ” هارتمان” عقد النفس ودفع إلى الانتحار أو إدمان الخمور، ليس عند الفتى ارتياح واطمئنان، وليس عند الفقير صبر واحتمال، إن الناس يشكون اليوم من ضياع الأخلاق، فهل يسمح الإلحاد بها وقد أزال الإيمان من القلوب، وأزال معه المبادئ الصالحة؟
لقد كانت الإنسانية في قديم الزمان تشكو مما نشكو منه من القَلق وعدم الارتياح، ولكن الذي منعها أن تثور ثورتنا أنها كانت تستمد من إيمانها تعزية وسلامًا، والذي ينتظر سعادة أخروية يسهل عليه أن يصبر على شيء وقتي ويخفف وقعه عليه.
نأخذ من هذه الشهادة ومن الواقع الملموس أن المدنية الغربية لن تحقق السعادة المنشودة بدون الإيمان الصحيح، ولا ينبغي الاغترار بمظاهرها المادية فهي مُسخرة للدمار، وهي في سبيلها للانهيار، كما انهارت دول وحضارات في القديم والحديث، وصدق الله إذ يقول (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُون وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ والنَّار مَثْوىً لَهُمْ) (سورة محمد : 12)..