نذكر بعض ما يقال من شبهات:
-لماذا لم ينزل الله نصوص القرآن الكريم واضحة جلية بحيث يفهمها العالم والجاهل على نحو واحد؟
-ولماذا لم تأتِ نصوص السنة هكذا؟
-ولماذا الإجمال الذي يسمح بفهم النص على عدة أوجه حسب أفهام الناس؟
-هل هذا الغموض أحوج علماء المسلمين إلى الدفاع عن هذه النصوص بدلا من أن تكون هذه النصوص نفسها حصنا منيعا؟
يجيب عن هذه الشبهة الشيخ الإمام محمد عبده -رحمه الله- فيقول:
1- إن الله أنزل المتشابه ليمتحن قلوبنا في التصديق به، فإنه لو كان كل ما ورد في القرآن معقولا واضحا لا شبهة فيه عند أحد من الأذكياء ولا من البلداء لما كان في الإيمان شيء من معنى الخضوع لأمر الله تعالى، والتسليم لرسله.
2- جعل الله المتشابه في القرآن حافزا لعقل المؤمن إلى النظر كيلا يضعف عقله فيموت. فإن السهل الجلي جدا لا عمل فيه للعقل، والدين أعز شيء على الإنسان. فإذا لم يجد فيه مجالا للبحث يموت فيه، وإذا مات فيه لا يكون حيا بغيره. فالعقل شيء واحد إذا قوي في شيء قوي في كل شيء، وإذا ضعف ضعف في كل شيء.
ولذلك قال تعالى: {والراسخون في العلم} ولم يقل: والراسخون في الدين؛ لأن العلم أعم وأشمل، فمن رحمته تعالى أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه، فهو يبحث أولا في تمييز المتشابه من غيره، وذلك يستلزم البحث في الأدلة الكونية والبراهين العقلية وطرق الخطاب، ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدي إلى تأويله، وهذا الوجه لا يأتي إلا على قول من عطف “والراسخون” على لفظ الجلالة، وليكن كذلك.
3- إن الأنبياء بعثوا إلى جميع الأصناف من عامة الناس وخاصتهم، سواء كانت بعثتهم لأقوامهم خاصة كالأنبياء السالفين عليهم السلام أو لجميع البشر كنبينا ﷺ. فإذا كانت الدعوة إلى الدين موجهة إلى العالم والجاهل، والذكي والبليد والمرأة والخادم، وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه كل مخاطب عاميا كان أو خاصا، ألا يكون في ذلك من المعاني العالية والحكم الدقيقة ما يفهمه الخاصة ولو بطريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله تعالى، والوقوف عند حد المحكم، فيكون لكل نصيب على قدر استعداده.
مثال ذلك:
-إطلاق لفظ كلمة الله وروح من الله على عيسى عليه السلام، فالخاصة يفهمون من هذا ما لا يفهمه العامة؛ ولذلك فتن النصارى بمثل هذا التعبير؛ إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله جنس أو أم أو ولد، والمحكم عندنا في هذا قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم}.
-ومن المتشابه ما يحتمل معاني متعددة وينطبق على حالات مختلفة لو أخذ منها أي معنى وحمل على أية حالة لصح، ويوجد هذا النوع في كلام جميع الأنبياء وهو على حد قوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}، ومنه إبهام القرآن لمواقيت الصلاة لحكمة.
-وقد بيَّن النبي ﷺ ذلك في بلاد العرب المعتدلة بالأوقات الخمسة للصلوات الخمس، وما كانت العرب تعلم أن في الدنيا بلادًا لا يمكن تحديد هذه المواقيت فيها، كالبلاد التي تشرق فيها الشمس نحو ساعتين لا يزيد نهار أهلها على ذلك، أشار القرآن إلى مواقيت الصلاة بقوله: “فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ . وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ”، وسبب هذا الإبهام أن القرآن دين عام لا خاص ببلاد العرب ونحوها، فوجب أن يسهل الاهتداء به حيثما بلغ، ومثل هذا الإجمال والإبهام في مواقيت الصلاة يجعل لعقول الراسخين في العلم وسيلة للمراوحة فيه، واستخراج الأحكام منه في كل مكان بحسبه، فأينما ظهرت الحقيقة وجدت لها حكمًا من القرآن، وهذا النوع من المتشابه من أجلّ نِعم الله تعالى، ولا سبيل إلى الاعتراض على اشتمال الكتاب عليه. انتهى نقلا عن تفسير المنار.