لا بد أن نعرف أولا أن الاقتصاد علم ومذهب ونظام، والاقتصاد العلم غير الاقتصاد المذهب والنظام، فالاقتصاد العلم له حقائق نظرية واحدة لا خلاف فيها ويستفيد منه كل ذي مذهب، ولا يوصف بأي وصف زائد على أنه اقتصاد، ولكن الأمر يختلف في الاقتصاد المذهب، فهو جانب تطبيقي تختلف فيه النظريات والأيدلوجيات، ومن هذه الجهة نقول:
هذا اقتصاد إسلامي، وهذا اقتصاد وضعي، وهناك فرق شاسع بينهما.
بل إن الاقتصاد الوضعي ليس مذهباً واحداً؛ هناك الاقتصاد الرأسمالي، وهناك الاقتصاد الاشتراكي، وهما متفاوتان في الفلسفة؛ الاقتصاد الرأسمالي يقوم على الفلسفة الفردية، الفرد هو أساس النظام، وربح الفرد ومكاسب الفرد هي الأساس، على حين أن النظام الاشتراكي أو الماركسي أو الشيوعي يقوم على أساس أن المجتمع هو الأساس والفرد ترس في آلة المجتمع الكبرى، ومن هنا تطغى ذاتية الفرد وحقوقه ومطالبه في النظام الرأسمالي، حتى تتلاشى أمامه حقوق المجتمع، وخصوصاً الطبقات الضعيفة والفئات المسحوقة، على أنه في الشيوعية والاشتراكية المجتمع هو الأساس والأفراد وذاتية الأفراد وطموحات الأفراد والحوافز الذاتية عند الأفراد وملكية الأفراد ليس لها أدنى اعتبار.
فهذان الاقتصادان هما جميعاً فرعان من اقتصاد واحد هو الاقتصاد الوضعي، والاثنان يخالفان الاقتصاد الإسلامي.
فالاقتصاد الإسلامي يخالفهما في النظرة، فنظرته وسطية بين الفردية والجماعية، فهو ينظر إلى الفرد وإلى المجتمع وهي عملية توازن بينهما، فمنهجنا منهج وسط (أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) لا طغيان ولا إخسار، فهو يعطي الفرد ويملِّك الفرد، ويقر الملكية الفردية والحوافز الفردية، ولكن لا يضع هذه الملكية بغير حساب، يقلِّم أظفارها ويحدد مسارها، ويضع عليها قيوداً وتكاليف، وهكذا المجتمع له مصلحته، فتراعى مصلحة المجتمع ومصلحة الفئات الضعيفة في المجتمع، فالفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمون هذه كلها فئات لها حقوقها، ومن أجل ذلك نجد أن الإسلام أقر وشرع من الفرائض ما يقيم التوازن بين الفرد والمجتمع، وجعل هناك من المحرمات أيضاً في قسم المنهيات في الشريعة أيضاً ما يقيم هذا التوازن ويقيم العدل.
وأهم أمرين في الاقتصاد الإسلامي، وهما أمران بارزان جداً.
في جانب المأمورات فريضة الزكاة، وهذه دعامة من دعائم الاقتصاد الإسلامي، وهي دعامة من دعائم الإسلام، فهي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهذه لها أهدافها الاجتماعية والاقتصادية والدينية.
في الجانب الآخر نجد تحريم الربا وتحريم الاحتكار وتحريم الضرر الذي يسبب النـزاع والمجازفات، فهذه الأشياء أساسية تجعل الاقتصاد الإسلامي مخالفاً للاقتصاد الوضعي.
الاقتصاد الإسلامي يختلف أيضاً عن الاقتصاد الوضعي في أنه ليس هدفه الناحية المادية فقط، الاقتصاد الرأسمالي يهمه أن يربح الفرد يكسب الأموال، ولأن قيمة الفرد عندهم بما معه من مال.
فقيمة رب الألفِ ألفٌ وزِد تزِد، وقيمة رب الدرهمِ الفرد درهمُ”، أي حسب ما معك تكون قيمتك في المجتمع، الإسلام يقول (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) ففيه مال ولكن فيه باقيات صالحات، فالإسلام يجعل مهمة الفرد أنه يسعى في الدنيا ليكسب رزقه (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ)، (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) والعمل في الإسلام عبادة وجهاد، وفي كل الأيام العمل مشروع، فاليهود مثلا يوم السبت يحرم عندهم العمل، نحن عندنا حتى يوم الجمعة قبل الصلاة هناك بيع وشراء وعندما يسمع النداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) وبعد الصلاة (فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ).
فالاقتصاد الإسلامي يجعل من الناحية المادية خادمًا للناحية الروحية يعني أن الناس يعملون في الدنيا ليعبدوا الله بعد ذلك (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) هذه وصايا لأصحاب المال.
ثم إن الاقتصاد الإسلامي يتميز بأنه اقتصاد أخلاقي، فالاقتصاد الوضعي يقول لك: لا علاقة للاقتصاد بالأخلاق، والأهم في الاقتصاد الوضعي أن تحقق مكاسب، أما الاقتصاد الإسلامي فلا بد أن يرتبط بالأخلاق في عمليات الاقتصاد الأربعة الأساسية، فالاقتصاد إنتاج واستهلاك وتداول وتوزيع، هذه أركان الأعمال الاقتصادية.
والمسلم مرتبط بالقيم الأخلاقية والعقدية والتشريعية، الحلال والحرام في كل هذه الأشياء، ففي الإنتاج عليه ألا ينتج الشيء المحرّم ولا الشيء الضار بالناس، وفي الاستهلاك أيضاً مأمور بأن يستهلك في حدود معينة (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)، وفي التداول ممنوع أيضاً أن يكسب المال من حرام أو ينميه بالحرام، فهو مرتبط بطرق معينة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)، جاء في القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، فقد كان المشركون يحجون إلى الكعبة ويقفون وهم عراة، فالنبي -ﷺ- أرسل علي بن أبي طالب عندما حج أبو بكر -رضي الله عنه- يعلن في الناس أنه لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فبعض أهل مكة قالوا: إنه كنا نستفيد من المشركين فكأنها سياحة دينية كما يعبر عنها في عصرنا، فهذه السياحة الدينية تجلب لنا أموالاً، فربنا قال لهم: لا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، أي سيعوضكم ربنا، وبالفعل عوضهم وفتح عليهم الفتوح، وأفاء عليهم من فضله، فهذا كله يدلّ على أن الاقتصاد الإسلامي مرتبط بالأخلاق في كل عملياته.