العلاج الجيني من المستحدثات ، وقد أجازه الفقهاء وفقا لمقاصد الشريعة ، وباعتبار المآلات والغايات المرجوة منه ، وذلك بضوابط محددة أهمها ألاّ يؤدي لضرر ، وأن يكون استخدامه في العلاج ، وألاّ يستخدم لأغراض الشر ، ولا يجوز العبث مطلقا بشخصية الإنسان ، ويمكن استخدامه في الزراعة ، وما يخدم الإنسان ، ولا يجوز أن ينتقل أثر العلاج الجيني للأطفال والذرية .
يقول الأستاذ الدكتور علي محيي الدين القره داغي :
بالنظر إلى العلاج الجيني من حيث ما له من خصوصية، وما له من آثار، وما يترتب عليه من مصالح أو مفاسد أو مخالفات للنصوص الشرعية. فلا ينبغي أن نصدر حكماً عاماً لجميع أنواع العلاج الجيني وحالاته؛ وذلك لأن الحكم الشرعي إنما يكون دقيقاً إذا كان موضوع الحكم معلوماً مبيناً واضحاً؛ لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره.
أدلة العلاج الجيني :
1ـ مقاصد الشريعة في رعاية المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والقواعد المتفرقة منها مثل كون درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وأنه يتم تحمل الضرر الأخف في سبيل درء الضرر الأكبر، وأن الضرر يُزال، وأن الضرر لا يُزال بمثله، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وأن الضرورات تُقدَّر بقدِرها، وأنه ينبغي تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، وأنه إذا تعارضت مفسدتان رُوعي أعظمهما ضرراً، وأنه يختار أهون الشريّن، وأن الضرر يدفع بقدر الإمكان، وأن الحاجة تنـزل منـزلة الضرورة، وأن الاضطرار لا يبطل حق الغير، وأن المشقة تجلب التيسير، وأنه إذا ضاق الأمر اتسع، وأنه لا ضرر ولا ضرار .
2ـ اعتبار الوسائل والذرائع، فالوسيلة المحرمة محرمة ولو كانت الغاية شريفة، فلا يجوز استعمال أية وسيلة محرمة في العلاج الجيني أو غيره إلاّ للضرورة التي تبيح المحظورات. وقد جعل ابن القيم قاعدة سد الذرائع ربع الدين والفقه الإسلامي.
3ـ رعاية المآلات والغايات والنتائج والآثار المترتبة على العلاج، حيث قال الشاطبي: “النظر في مآلات (أي حالها في المستقبل) الأفعال معتبر مقصود شرعاً، سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلاّ بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تُستجلب، أو مفسدة تُدرأ، ولكن له مآلٍ على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أُطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح القول بعدم المشروعية”، وقاعدة المآلات هي الأصل العام الذي تنبني عليها مجموعة من القواعد الأساسية.
4ـ النظر إلى العلاج الجيني بصورة خاصة من خلال أنواعه، وحالاته، حتى يكون الحكم دقيقاً صحيحاً بقدر الإمكان، وذلك لأن الحكم الصحيح على الشيء فرع من تصوره وفهمه فهماً دقيقاً،
ولذلك نفصل القول حسب الأنواع المتاحة لنا:
حكم العلاج الجيني:
وقد صدر قرار من المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة تضمّن مجموعة من الأحكام والضوابط، حيث نصّ على: أن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة، المنعقدة في مكة المكرمة، التي بدأت 11 رجب 1419هـ الموافق 31 اكتوبر 1998م، قد نظر في موضوع استفادة المسلمين من علم الهندسة الوراثية التي تحتل اليوم مكانة مهمة في مجال العلوم، وتُثار حول استخدامها أسئلة كثيرة. وقد تبين للمجلس أن محور علم الهندسة الوراثية هو التعرف على الجينات (المورثات) وعلى تركيبها، والتحكم فيها من خلال حذف بعضها –لمرض أو لغيره- أو إضافتها أو دمجها بعضها مع بعض لتغيير الصفات الوراثية الخلقية.
وبعد النظر والتدارس والمناقشة فيما كتب حولها، وفي بعض القرارات والتوصيات التي تمخضت عنها المؤتمرات والندوات العلمية. يقرر المجلس ما يلي:
أولاً: تأكيد القرار الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بشأن الاستنساخ، برقم: 100/2/د/10 في الدورة العاشرة المنعقدة بجدة، في الفترة من 23 ـ 28 صفر 1418هـ.
ثانياً: الاستفادة من علم الهندسة الوراثية في الوقاية من المرض أو علاجه، أو تخفيف ضرره، بشرط ألا يترتب على ذلك ضرر أكبر.
ثالثاً: لا يجوز استخدام أي من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في الأغراض الشريرة وفي كل ما يحرم شرعاً.
رابعاً: لا يجوز استخدام أي من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله للعبث بشخصية الإنسان ومسئوليته الفردية، أو للتدخل في بنية المورثات (الجينات) بدعوى تحسين السلالة البشرية.
خامساً: لا يجوز إجراء أي بحث، أو القيام بأية معالجة، أو تشخيص يتعلق بمورثات إنسان ما إلاّ بعد إجراء تقويم دقيق وسابق للأخطار والفوائد المحتملة المرتبطة بهذه الأنشطة، وبعد الحصول على الموافقة المقبولة شرعاً مع الحفاظ على السرية الكاملة للنتائج، ورعاية أحكام الشريعة الإسلامية الغراء القاضية باحترام حقوق الإنسان وكرامته.
سادساً: يجوز استخدام أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في حقل الزراعة وتربية الحيوان، شريطة الأخذ بكل الاحتياطات لمنع حدوث أي ضرر -ولو على المدى البعيد- بالإنسان، أو بالحيوان، أو بالبيئة.
سابعاً: يدعو المجلس الشركات والمصانع المنتجة للمواد الغذائية والطبية وغيرهما من المواد المستفادة من علم الهندسة الوراثية إلى البيان عن تركيب هذه المواد ليتم التعامل والاستعمال عن بينة حذراً مما يضرُّ أو يحرم شرعاً.
ثامناً: يوصي المجلس الأطباء وأصحاب المعامل والمختبرات بتقوى الله تعالى واستشعار رقابته والبعد عن الإضرار بالفرد والمجتمع والبيئة.
حكم المسح الوراثي:
ويجوز للدولة الإجبار على هذه الطريقة إذا انتشر الوباء في بلد معين، أو اقتضته المصالح العامة. ولكن يجب الحفاظ على نتائج المسح وعدم إظهارها إلاّ بقدر ما تقتضيه الضرورة أو الحاجة الملحة؛ وذلك حماية لأسرار الناس التي هي مقصد من مقاصد الشريعة.
حكم تغيير الخلقة:
1ـ الجراحات التي يكون الهدف منها علاج المرض الخلْقي والحادث بعد الولادة لإعادة شكل أو وظيفة العضو السوية المعهودة له وهذا جائز شرعاً، ويرى الأكثرية أنه يعتبر في حكم هذا العلاج إصلاح عيب أو دمامة تسبب للشخص أذى عضويًّا أو نفسيًّا.
2 ـ لا تجوز الجراحات التي تخرج بالجسم أو العضو عن خلقته السوية، أو يقصد بها التنكر فراراً من العدالة، أو التدليس، أو بمجرد اتباع الهوى.
3 ـ ما ظهر في بعض المجتمعات من جراحات تُسمى عمليات تغيير الجنس استجابة للأهواء المنحرفة حرام قطعاً، ويجوز إجراء عمليات لاستجلاء حقيقة الجنس في الجنس.
ولكن هناك فرق بين ذلك التغيير الحاصل على بعض أجزاء البدن والتغيير عن طريق العلاج الجيني.
فالأول يتم عن طريق إجراء عمليات تجميلية واقعة على الأعضاء المصابة بالآفة أو القبح.
أما العلاج الجيني فيتم عن طريق التحكم في المصادر المتحكمة والأجهزة المتحكمة في الأعضاء، والمسؤولة عنها شكلاً ولوناً وكيفاً وكمًّا حسب سنة الله، وذلك بالتدخل في الجينات، أو الاستئصال أو التبديل بين جزئياتها.
ولكن هذا الفرق غير مؤثر في عموم الحكم الخاص بتغيير الخلقة.
ومن هنا نقول:
أولاً ـ إن أي علاج جيني يستهدف علاج الجينات المريضة والمشوهة لإعادتها إلى شكل أو وظيفة العضو السوية المعهودة له جائز شرعاً، وكذلك العلاج الجيني الذي يستهدف إصلاح عيب أو دمامة تسبب للشخص أذى عضويًّا أو نفسيًّا.
ثانياً ـ لا يجوز العلاج الجيني الذي يستهدف خروج الجسم أو العضو عن خلقته السوية.
ثالثاً ـ لا يجوز تغيير الجنس، أو اللون، أو الشكل؛ لأنها من آيات الله تعالى التي تقوم على الحكم والتوازن والموازنات والسنن الربانية.
ومسألة التغيير في خلق الله بيّن الله تعالى في القرآن الحكيم أنها من فعل الشيطان وأوليائه، حيث قال تعالى: “إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا*لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا*وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ” (النساء: 117 – 119)، كما قال تعالى: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ” (الروم: 30).
أقوال المفسرين في التغيير :
وذهب المفسرون في تفسير التغيير والتبديل، إلى عدة أقوال :
الأول: أن المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله .
الثاني: حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر، وذكروا فيها وجوهاً مثل الوصل، والوشم، والإخصاء، وقطع الآذان، وفقء العيون، والتخنث، أو جعل الأنعام بحائر وسوابق، مع أن الله خلقها لتؤكل وتركب.
والراجح في تفسير : “فليغيرنَّ خلق الله” (النساء: 119) أنه هو يشمل المعنيين أي التغيير في فطرة الدين، والتغير في الشكل الطبيعي للإنسان والحيوان، وأنه على ضوء المعنى الأخير يكون التغيير في الشكل الطبيعي، وهو أيضاً يمثل الفطرة السليمة. وقد وضع ابن عطية معيارًا رائعاً للتغيير المباح، والتغيير غير المشروع فقال: “وملاك تفسير هذه الآية أن كل تغيير ضار فهو في الآية، وكل تغيير نافع فهو مباح”.
فعلى ضوء ذلك أن أيَّ تغيير أو تبديل في الجينات، أو ما يترتب عليه من آثار إن كان في حدود العلاج أو منع المرض، أو إصلاح الخلل، أو العيب وعدم تغيير الشكل الفطري فهو جائز، وإن كان فيه عبث بالجينات، أو تغيير للهيئة، أو الشكل واللون، والطول والقصر فهو محرم.
وكل هذه الأحكام خاصة بالعلاج الجيني الجسدي الذي يكون في المستوى الأول، حيث تتم معالجة أعراض المرض للفرد نفسه دون التعرض للأجيال التالية.
انتقال أثر العلاج الجيني للأطفال والذرية :
ولكن إذا توصل العلم إلى منع الأضرار والآثار السلبية على الإنسان والأجيال اللاحقة؛ فإنه لا يمكن الاستمرار في منع أو حظر هذا النوع من المعالجة شرعاً. فالمنع يدور مع الضرر المحقق، والجواز يدور حول المصلحة ودرء المفسدة.
ومع ذلك فلا نرى مانعاً من إجراء التجارب على الحيوانات إذا كان هناك أمل في الوصول إلى تحقيق نتائج إيجابية؛ لأن الكون كله مخلوق لخدمة الإنسان ومسخر له، ولكن بالضوابط الدينية والأخلاقية، وبما لا يترتب عليه ضرر أكبر بالإنسان والبيئة .أ.هـ