يقول الدكتور يوسف القرضاوي :
للمستشرقين في كل جانب من جوانب الإسلام، وفي كل فرع من فروع المعرفة الإسلامية دعاوٍ عريضة دفع إليها أحد أمرين أو كلاهما.
الأول: سوء الفهم لدين الإسلام ولغته التي نزل بها كتابه، وجاءت بها أحاديث نبيه، وكتبت بها مؤلفات علمائه، وهم ـ لعجمتهم وغربتهم عنها ـ لا يتذوقونها، ولا يدركون أسرار تعبيرها، وتنوع دلالاتها.

والثاني: سوء النية والقصد إلى البحث عن عورات يشنعون بها، ونقاط ضعف يسوغون بها ما يعتقدونه من دعوى بشرية القرآن وعدم صدق نبوة محمد فهم يقرأون تراثنا ويدرسونه بروح المتعصب الباحث عن المطاعن، لا بروح الباحث عن الحق.
فهم قد كونوا فكرة سابقة عن الإسلام وكتابه ونبيه ورجاله وتاريخه، وهمهم في دراسة تراث الإسلام أن يعثروا على أدلة توافق فكرتهم، فإن لم يجدوا الأدلة ـ كما هو الواقع ـ تصيدوا الشبهات، فإن أعيتهم الشبهات، لفقوا من المصادر الضعيفة، والأقوال المردودة، والروايات المنكرة، ما يشوشون به و يبهرجون.

ومن ذلك ما ذكره بعضهم عن عبادة المسلمين وأنها تقوم على الخوف والخضوع وحده، ولا مجال فيها لحب الله تعالى، وأن الله في تصور المسلمين إله قهر وجبروت لا إله رحمة وحب.
ويزعمون أن المسلمين لم يعرفوا عنصر الحب في صلتهم بالله تعالى، إلا بعد انتشار التصوف الذي اقتبس هذا العنصر من مصادر أجنبية عن الإسلام.

ولو أنصف هؤلاء ورجعوا إلى نصوص القرآن والسنة، وسيرة الرسول وسير أصحابه ومن تبعهم بإحسان، بل لو حللوا معنى العبادة لغة ـ كما فعل ابن تيمية ـ لكفوا عن هذا اللغو، وعلموا أن العبادة في الإسلام تعني: غاية الخضوع لله مع غاية الحب له.
والمتصوفة لم يستمدوا حب الله تعالى من خارج الإسلام، وإنما التفتوا إليه ونموه وعمقوه في الوقت الذي كان بعض المنتسبين إلى علم الكلام لا يتصورون قيام حب حقيقي من الإنسان لربه، لأن الحادث كيف يحب القديم؟

وما حاجة الصادقين من أهل الذوق والوجدان الروحي (الصوفي) إلى اقتباس الحب من مصدر أجنبي عن الإسلام، ونصوصه المحكمة في هذا الأمر أمام أعينهم بينة واضحة، وكافية شافية؟

يكفي أن نذكر هنا ما كتبه الإمام الغزالي في بيان شواهد الشرع في حب العبد لله تعالى في كتاب “المحبة” من “إحيائه” لنعلم من أي ينبوع استقى الصوفية المعتدلون فكرة “الحب الإلهي” قال: “اعلم أن الأمة مجمعة على أن الحب لله ولرسوله فرض، وكيف يفرض ما لا وجود له؟

وكيف يفسر الحب بالطاعة، والطاعة تبع الحب وثمرته؟

فلا بد أن يتقدم الحب ثم بعد ذلك يطيع من أحب، ويدل على إثبات الحب لله تعالى قوله عز وجل: (يحبهم ويحبونه) وقوله تعالى: (والذين آمنوا أشد حبا لله) وهو دليل ثابت على إثبات الحب وإثبات التفاوت فيه،

وقد جعل رسول الله الحب لله من شرط الإيمان في أخبار كثيرة، إذ قال أبو رزين العقيلي: “يا رسول الله ما الإيمان قال أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما”.

وفي حديث آخر: “لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين”.

وفي رواية (ومن نفسه) كيف وقد قال تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم) الآية، وإنما أجرى ذلك في معرض التهديد والإنكار.

وقد أمر رسول الله بالمحبة فقال: “أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله إياي.

ويروى أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحبك، فقال : استعد للفقر، فقال: إني أحب الله تعالى فقال: استعد للبلاء”

وعن عمر رضي الله عنه قال: “نظر النبي إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال النبي : “انظروا إلى هذا الرجل الذي نور الله قلبه، لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله إلى ما ترون”.

وقد قال نبينا في دعائه “اللهم ارزقني حبك، وحب من أحبك، وحب ما يقربني إلى حبك، واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد”.

وجاء أعرابي إلى النبي فقال: “يا رسول الله متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ فقال: ما أعدت لها كثير صلاة ولا صيام إلا أنني أحب الله ورسوله، فقال له رسول الله : “المرء مع من أحب” قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك.

فهذه هي حقيقة العبادة في الإسلام إنها معنى مركب من عنصرين: غاية الخضوع لله تعالى، مع غاية المحبة له سبحانه.

بل قال ابن القيم: “أصل العبادة محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه”.