اختلف الفقهاء في الصوم عن الميت فذهب بعضهم إلى أن الولي لا يصوم عن الميت بل يُطْعِم عنه لكل يوم مسكينًا، وذهب آخرون إلى أن الولي لا يصوم عن الميت في قضاء رمضان، وأمَّا في قضاء النذر فيصوم عنه، ورأى ابن حزم أن الولي يَصُوم عن الميت نذرًا كان أو غيره، وذهب الجمهور إلى أن الولي يصوم استحبابًا عن الميت.
يقول الشيخ حسنين مخلوف -رحمه الله-:
قال في المغني: وسأله ـ ﷺ ـ رجلٌ عن أمه التي ماتت وعليها صومُ شهرٍ، أفأصومُ عنها؟ قال: “نعم”ا.هـ
وعن ابن عباس قال: جاء رجلٌ إلى النبي ـ ﷺ ـ فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صومُ شهرٍ، أفأقضيه عنها؟ فقال: “لو كان على أمك دَيْنٌ أكنتَ قاضيه عنها؟ “قال: نعم. قال: “فَدَيْنُ الله أحقُّ أن يُقضَى”. رواه البخاري ومسلم”،وعنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ـ ﷺ ـ فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صومُ نذْرٍ، أفأصوم عنها؟ فقال: “أرأيتِ لو كان على أمكِ دَين فقضيتِه أكان يُؤدَّى ذلك عنها؟. قالت: نعم. قال: “فصُومي عن أمكِ”. رواه مسلم وأخرجه البخاري تعليقًا بمعناه”، وعن عائشة أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: “مَن مات وعليه صيام صام عنه وَلِيُّهُ. “متفق عليه”. ورُوي نحوه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما.
وهو تقرير لقاعدة عامة فِيمَن مات وعليه صوم واجب، بأيِّ سبب من أسباب الوجوب أنه يُصام عنه ويسقط عنه الواجب بفعل النائب عنه. وكذلك حديث ابن عباس الأول، ويُشير إلى قوله ـ ﷺ ـ فيه: “فدَينُ الله أحقُّ أن يُقضَى”. وأما حديث ابن عباس الثاني، فهو تنصيص على بعض أفراد العام، وهو صوم النذر فلا يَصلح مُخصِّصًا ولا مقيِّدًا لحديث عائشة.
فاستُفيد من هذه الأحاديث ـ كما يُؤخذ من نيل الأوطار ـ أن الوليَّ يصوم عمَّن مات وعليه صوم واجب بعد التمكُّن من أدائه، أيَّ صوم كان، نذْرًا أو غيره، وجوبًا كما قاله ابن حزم، أو استحبابًا كما ذهب إليه الجمهور، ومنهم الشافعي في القديم، وصححه النووي وقال: إنه المختار مِن قول الشافعي. وقال به من السلف طاوس والحسن والزهري وقتادة وأبو ثور وداود. وإليه ذهب أصحاب الحديث وجماعة من مُحدِّثي الشافعية والأوزاعى. وقال البيهقي: هذه السُّنة ثابتة لا أعلم خلافًا بين أصحاب الحديث في صحتها فوجب العمل بها..انتهى.
ويجب عليه الإيصاء به، وبصومه عن الميت تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ منه.
“أقول”: وفي تشبيهه في الأحاديث بقضاء الدَّيْنِ عنه دليل على إجزائه عن الميت وفراغ ذِمته منه.
الإطعام عمن مات وعليه صوم:
وذهب أبو حنيفة والشافعي في قوله الجديد، والثوري في رواية إلى أن الولي لا يصوم عن الميت في النذر ولا في غيره؛ بل يُطعم عنه لكلِّ يوم مسكينًا، استنادًا لمَا أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس “موقوفا” أنه قال “لا يصوم أحدٌ عن أحدٍ، ولا يُصلِّي أحدٌ عن أحد، ولكن يُطعِم عنه. ولمَا أخرجه عبد الرزاق عن عائشة “موقوفا” أنها قالت: “لا تصوموا عن موتاكم، وأطْعِمُوا عنهم. (يؤخذ منه انتفاع الميت بالإطعام عنه) ولأن الصوم عبادة بدنية لا ينوب فيها أحد عن أحد كالصلاة، وفُتْيَا ابن عباس وعائشة بهذا ـ وهو خلاف ما رَوَيَاهُ “مرفوعا” من صوم الولي ـ بمنزلة رواية الناسخ، ورده الشوكاني تبعًا للحافظ في الفتح بأن الحق اعتبار ما رواه الصحابي دون ما رآه لاحتمال أن يُخالف ذلك الاجتهاد وقال: وما رُوي مرفوعًا في الباب يَرُدُّ ذلك كله. اهـ.
وذهب أحمد والليث وأبو عبيد وإسحاق إلى أن الولي لا يصوم عن الميت إلا في النذْر؛ تَمَسُّكًا بأن حديث عائشة مُطلق، وحديث ابن عباس الثاني مُقيد، فيُحمل المطلق على المقيد، ويكون المراد ممَّن قوله في الحديث الأول “وعليها صيام” أيْ: صيام نذْر، وقد علمتَ الجواب عن ذلك مما سلَف. (أيْ: في قولنا وهو تقرير لقاعدة عامَّة.. الخ).
أما في غير النذْر ـ فالواجب أن يُطعِم عنه لكل يوم مسكينًا؛ لمَا رُوي عن ابن عمر “موقوفًا بإسناد حسن” مَن مات وعليه صيام شهر فلْيُطعم عنه مكان كل يوم مسكينًا. رواه ابن ماجه“، وعن عائشة قالت: يُطعم عنه في قضاء رمضان ولا يُصام عنه. وسُئل ابن عباس عن رجل مات وعليه نذرٌ أن يصوم شهرًا، وعليه صيام رمضان. فقال: أما رمضان فليُطعم عنه، وأما النذْر فيُصام عنه.
وفرَّق في المغني بين النذر وغيره، وقال تفريعًا عليه: إن الصوم “أي في النذر” ليس بواجب على الولي؛ لأن النبي ـ ﷺ ـ شبَّهه بالدَّين، ولا يجب على الولي قضاء دين الميت، وإنما يتعلَّق الوجوب بتَرِكته إنْ كان له تركة، وإلا فلا شيء على وارثه، ولكن يُستحب أن يُقضى عنه لتفريغ ذِمته وفكِّ رِهانه فكذلك ها هنا، ولا يختصُّ ذلك بالولي، بل كل من صام عنه قضى ذلك عنه وأجزأه؛ لأنه تبرُّعٌ، فأشبه قضاء الدين عنه. ا.هـ.
من هو ولي الميت؟ وهل يختصُّ الصوم بالولي؟
وقد اختلف الفقهاء في المراد بالولي؛ فاختار النووي في شرح مسلم أنه القريب وارثًا أو غير وارث. وقيل: هو الوراث خاصة وذهب الحنفية إلى أنه هو المُتصرِّف في المال، فيشمل الوصي ولو أجنبيًّا، كما ذكره ابن عابدين في الصوم.
كما اختلفوا في أنه هل يختص الصوم بالولي أم لا؟ فقيل: يختص به، ورجَّحه الشوكاني تبعًا للحافظ في الفتح؛ لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية؛ ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة في الحياة فكذلك بعد الموت، إلا ما ورد فيه النصُّ، فيُقتصر عليه، ويبقى الباقي على الأصل. وصححه النووي وقال: إنه لو صام عن الميت أجنبيٌّ، فإذا كان بإذن الولي صحَّ وإلا فلا. وزاد الإمام القسطلاني الشافعي (المتوفى سنة 923 هـ) أنه يصحُّ الصوم عن الميت من الأجنبي إذا أذِن له الميت أو الولي بأُجْرة أو بدونها ا.هـ.
وقيل: لا يختصُّ به، بل يُقبل منه ومن المُتبرع ولو أجنبيًّا، وهو صريح عبارة المغني وظاهر صنيع البخاري، وبه جزَم أبو الطيب الطبري وقوَّاه بتشبيهه ـ ﷺ ـ ذلك بالدَّيْن، والدَّين لا يختصُّ بالقريب، ذكره الحافظ في الفتح.
وقال الحنفية: إن مَن أفطر لعُذر كالمرض ومات وهو على حاله لا يجب عليه القضاء؛ لعدم إدراكه عدةً مِن أيام أُخر؛ إذ وُجوب القضاء فرعُ وجوبِ الأداء، وهو لم يجب عليه الأداء، ولا يجب عليه الإيصاء بالإطعام. ولكن لو أوصى به صحَّتِ الوصية ونُفِّذَتْ من الثلث، فإذا برأ مِن مرضه ولم يَقضِ ما فاته مع تَمكُّنه حتى أدركه الموت لزِمه القضاء ووجب عليه الإيصاء بأن يُطعم عنه لكل يومٍ مسكينًا؛ لأنه لمَّا عجز عن القضاء بعد وُجوبه بتقصيرٍ منه تحوَّل الوُجوب إلى بدله، وهو الإطعام فوجب عليه الإيصاء به، ويجب على الوليِّ تنفيذ الوصية من الثلث، فإن لم يُوصِ لم يجب عليه الإطعام عنه، فإنْ تبرَّع به هو أو أجنبيٌّ عنه جاز مُعلَّقًا بمشيئة الله ـ تعالى ـ وكان ثوابه للميت.
ولا مانع من القول بسقوط المُطالبة في الآخرة عن الميت بالصوم إذا أطعم عنه الوليُّ بعد وفاته وإنْ بقي عليه إثْم التأخير، كما لو كان عليه دين لإنسان فمَاطَلَهُ به حتى مات ثم أدَّاه عنه مُتبرِّع، فإنَّ ذِمَّته تفرغ منه، ويبقى عليه إثْم المُمالطة إلى الموت.