كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر أصحابه بمُخالفة غيرهم في كثيرٍ من الشئون الظاهرة، احتفاظًا بتميُّز الشخصية المسلمة، ومن ذلك أمرُه -عليه الصلاة والسلام- بصَبْغِ الشعر إذا اشتعلَ شيبًا، ومن هنا قال العلماء : إن الصبْغ مُستحب، غير أن بعضهم قال بكراهة الخِضاب السَّواد أو حُرْمته، لكن جمهور الفقهاء رأوا أن هذا خاصٌّ بمَن كان طاعنًا في السِّنّ، أما مَن لم يكن كذلك فلا بأسَ أن يَصبِغ السواد.

يقول الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق -رحمه الله-:

كان النبي –صلى الله عليه وسلم– شديد الحِرْص على تميُّز المسلمين عن غيرهم في شخصيتهم الظاهرة، وبذلك يحتفظون بتميُّزهم في الشخصية الباطنة ، فلا تقترِب العقائد من العقائد، ولا الأخلاق من الأخلاق، ولا التقاليد مِن التقاليد، ذلك أن التشابُه في الأمور الظاهرة سبيل لمُسارقة النفوس للتشابُه في الأمور الباطنة، ومِن ذلك نرى المسلمين الذين تكثُر مُعاشرتهم للأجانب أضعف اهتمامًا بشئون الدِّين مِن غيرهم، ونرى غير المسلمين الذين يُكثرون من مُعاشرة المسلمين أقرب إلى احترام المسلمين واحترام دِينهم من غيرهم.

هذا وجه، ووجه آخر هو أن المشابهة في الظاهر تُحدث ألْفةً ومودةً. ومن ذلك نرى الرجلين إذا اجتمعَا في بلد غريبٍ، وكانَا من بلد واحد تقوى بينهما الأُلْفة، وإن لم يكونَا مُؤتلفينِ في بلدهما.

وكذلك نرى الألفة تربط بين الرجلين متى كانت بينهما مُشابهة، ولو في العِمامة أو الثياب أو الشعر، ويَعرف كلَّ ذلك الشرقيون المُحافظون على زِيِّهِمْ الشرقي إذا تَلاقَوْا في بلد غربيٍّ، لأهله زيٌّ غير زِيِّهم.

ومِن هنا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في الدور الأول لتكوين أمته، ولمُساكنِيهم في المدينة عاداتٌ خاصة عُرفوا بها كان يأمر أصحابه بمُخالفة غيرهم في كثيرٍ من الشئون الظاهرة، احتفاظًا بتميُّز الشخصية التي يرتبط بها كثيرٌ من الأحكام، كإعفاء اللِّحْيَة، وقصِّ الشارب، والصلاة في النعال، وقيام الإمام في المِحراب، وغير ذلك مما نرى تعليل الأمر به والإرشاد إليه بكلمة : “خَالِفُوهُمْ”.

وكان مما أرشدَ النبيُّ إلى فعله، بناء على هذا الأصل في التشريع الشعاري للجماعة، أمرُه -عليه الصلاة والسلام- بصَبْغِ الشعر في اللِّحْية أو الرأس إذا اشتعلَ شيبًا، وقد ثبَت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “إنَّ اليهود والنصارى لا يَصبغون فخَالِفُوهمْ”.

وقال : “إنَّ أحسنَ ما غيَّرْتُمْ به هذا الشيْب الحِنَّاءُ والكَتَمُ”. والكتَم : نبْتٌ يظهر في الجبال يخرج منه صبْغٌ أسودُ يميل إلى الحُمرة.

ومن هنا قال العلماء : إن الصبْغ سُنَّةٌ أو مُستحب. وقد كثُر اشتغال السلف به، ونرى المُؤرخين في تراجم الصحابة والأئمة يقولون عن فلان: كان يُخضِّب، وعن غيره كان لا يُخضب، وقالوا: إن في الخضاب فائدتينِ: تنظيفُ الشعر، وتحقيق المُخالفة التي يخشى من تركها.

الصبْغ بالسواد :

غير أن بعضهم قال بكراهة الخِضاب السَّواد أو حُرْمته ؛ أخذًا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأْن أبي قُحافة؛ والد أبي بكر، وكان شعرُ لِحْيَتِهِ ورأسِه شديدَ البياض : “غيِّروهما وجنِّبُوهُ السَّوَادَ”. ولكن جمهور الفقهاء رأوا أن هذا خاصٌّ بمَن كان كأبي قُحافة طاعنًا في السِّنِّ، وشديد بياضِ الشعر، أما مَن لم يكن كذلك فلا بأسَ أن يَصبِغ السواد، وقد صبَغ به جماعةٌ من الصحابة والتابعين، صبغ به عثمان والحسن والحسين، وعُقبة بن عامر، وصبغ به ابن سِيرين وأبو برَدة وغيرهم، واستحبَّه الجميع عند مُلاقاة الأعداء في الحروب.

ومُجمل القوْل أن الأمر في الصبْغ ولونه أيْسر مِن أن يتشدَّد فيه مُتشدِّد، فيرى منعه أو إباحته، أو يرى منعه بلون خاصٍّ وإباحته بلون آخر. فللسِنِّ والهيئة والتناسُب والبواعث والإلْف. لكلِّ ذلك دخل في حُسن الاختيار في الصبْغ أو عدمه، وفي اللون الذي يُصبغ به، وهو على وجهٍ عام من الشئون الزمنية البشرية التي لا يُحتمها أو يمنعها الدِّين.