يقول الدكتور محمد سليمان الأشقر:
الأصل في أقوال النبي محمد ـ ﷺ ـ وأفعاله وتقريراته أنها حجة شرعية على عباد الله ، إن ثبتت بطريق صحيح. وقد تكفل ببيان ذلك والاستدلال له علم أصول الفقه. وهذا واضح كل الوضوح فيما كان من ذلك مبينا لأمور الدين، كالإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، وكالأحاديث المبينة لأحكام الله تعالى من الحلال والحرام والفرائض وأنواع التعبدات والمعاملات وغيرها من أمور الشريعة.
أما الأمور الدنيوية، فهل يلزم أن تكون اعتماداته وأقواله: ـ ﷺ ـ فيها مطابقة للواقع بمقتضى نبوته ، أو أن هذا أمر لا صلة له بمنصب النبوة؟
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين :
المذهب الأول: أنه ـ ﷺ ـ معصوم من خطأ الاعتقاد في أمور الدنيا، بل كل ما يعتقده في ذلك فهو مطابق للواقع، وكذلك ما يقوله ويخبر به. ولم نجد أحدا من قدماء الأصوليين صرح بمثل هذا المذهب. ولكنه لازم لمن جعل جميع أقواله وأفعاله ـ ﷺ ـ حجة حتى في الطيبات والزراعة ونحوها.
وهو لازم أيضا لمن صحح منهم أن تقريره ـ ﷺ ـ لمخبر عن أمر دنيوي يدل على صحة ذلك الخبر، كما فعل السبكي وأيده المحلي والبناني. وابن القيم في كتابه (الطب النبوي) يذهب إلى حجية أقواله وأفعاله ـ ﷺ ـ في الطب. وقال : طب النبي ـ ﷺ ـ متيقن قطعي إلهي ، صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل.
ويظهر أن هذه طريقة المحدثين. فإنا نجد عند البخاري مثلا هذه الأبواب (باب السعوط) (باب أي ساعة يحتجم) (باب الحجامة في السفر) (باب الحجامة على الرأس) (باب الحجامة من الشقيقة والصداع) وعند غيره من المحدثين ، كأصحاب السنن، تبويبات مشابهة. ويوافقهم الشراح غالبا على ذلك ، فيذكرون استحباب أدوية معينة لأمراض معينة، بناء على ما ورد في ذلك أن الأحاديث النبوية.
المذهب الثاني: أنه لا يجب أن يكون اعتقاده ـ ﷺ ـ في أمور الدنيا مطابقا للواقع، بل قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلا أو كثيرا ، بل قد يصيب غيره حيث يخطيء هو ـ ﷺ ـ. قالوا: وليس في ذلك حط من منصبه العظيم الذي أكرمه الله به ، لأن منصب النبوة مُنصب على العلم بالأمور الدينية ، من الاعتقاد في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن الأمور الشرعية. أما إن اعتقد أن فلانا مظلوم فإذا هو ظالم، أو أن دواء معينا يشفي من مرض معين، فإذا هو لا يشفى منه ، أو أن تدبيرا زراعيا أو تجاريا أو صناعيا يؤدي إلى هدف معين، فإذا هو لا يؤدي إليه، أو يؤدي إلى عكسه، أو أن تدبيرا عسكريا أو إداريا سينتج مصلحة معينة ، أو يدفع ضررا معينا ، فإذا هو لا يفعل ، فإن ذلك الاعتقاد لا دخل له بالنبوة ، بل هو يعتقده من حيث هو إنسان، له تجاربه الشخصية، وتأثراته بما سبق من الحوادث، وما سمع أو رأى من غيره، مما أدى إلى نتائج معينة.
فكل ذلك يؤدي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البشر، ثم قد ينكشف الغطاء فإذا الأمر على خلاف ما ظن أو اعتقد. وقد صرح بأهل هذا المذهب، دون تفاصيله، القاضي عياض ، والقاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي والشيخ محمد أبو زهرة .
وظاهر الحديث أنه ـ ﷺ ـ كغيره من الناس في ذلك، بل فيه التصريح بأن أصحاب الخبرة في صنائعهم وتجاراتهم وزراعاتهم قد يكونون أعلم منه بدقائقها، إلا أن القاضي عياضاً أوجب أن يكون الخطأ في ذلك نادراً لا كثيرا يؤذن بالبلة والغفلة. ويحتج لهذا المذهب بأدلة، منها: أولا: حديث تأبير النخل. ففي صحيح مسلم عن رافع بن خديج ، أنه قال ” قدم النبي ـ ﷺ ـ المدينة، فإذا هم يأبرون النخل- يقول: يلقحون النخل- فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا. فتركوه، فنفضت، فذكروا ذلك له، فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر “.
وفي رواية طلحة، قال ـ ﷺ ـ ” ما أظن ذلك يغني شيئا ” فأخبروا بذلك، فتركوه. فأخبر رسول الله ـ ﷺ ـ بذلك. فقال: ” إن كان ينفعهم ذلك فيصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله “.
وفي رواية عائشة وأنس: ” أن النبي ـ ﷺ ـ مر بقوم يلقحون، فقال: لو لم يفعلوا لصلح. قال: فخرج شيصاً ، فمر بهم فقالوا : ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. قال: ” أنتم أعلم بدنياكم ” . وشبيه به حديث ابن عباس في قصة الخرص ، وفيه: فقال رسول الله ـ ﷺ ـ ” إنما أنا بشر، فما حدثتكم عن الله فهو حق ، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطيء وأصيب “.
وقد رد الاستدلال بهذا الحديث بأن المراد: أنتم أعلم بدنياكم من أمر دينكم . ويكون توبيخا لهم . وسياق الحديث على اختلاف رواياته يأبى هذا التأول ويبطله.
ثائيا: حديث أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي لما قال: ” إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلى. ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار “. وفي رواية الزهري للحديث المذكور ” إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم. فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق ، فأقضي له بذلك “.
رأينا في ذلك: نختار المذهب القائل بأن أقوال النبي ـ ﷺ ـ وأفعاله الدنيوية ليست تشريعا، وذلك لأجل الأدلة الآتية:
ا – قوله تعالى: ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى ) وقوله (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) وقد تكرر التأكيد في الكتاب على بشرية الرسول ـ ﷺ ـ وأنه لا يعلم الغيب وأنه ليحس ملكا، ومن المعلوم أنه لما نبأه الله عز وجل، لم يمنعه من تصرفاته البشرية كما يتصرف غيره من الناس على غالب الظنون والتقادير التي تخطيء وتصيب، ولا تعهد له بأن يمنعه من الخطأ في ذلك. وهذا بخلاف أمور الشريعة، فإن كلامه فيها لا يستقر فيه خطأ، كما هو ثابت في علم أصول الفقه.
فالأصل استمرار حاله في أمور الدنيا كما كان قبل النبوة ، لما لم يدل على انتقاله عن ذلك دليل. وقد أكدت السنة النبوية ما بينه القرآن من ذلك. كما يأتي.
2- قوله ـ ﷺ ـ ” إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بأمر دينكم فاقبلوه، وإذا أمرتكم بشيء من دنياكم فإنما أنا بشر ” وفي رواية: ” أنتم أعلم بدنياكم، وبهذا الحديث، برواياته المختلفة، يؤصل النبي ـ ﷺ ـ أصلا عظيما في الشريعة، ويبينه لنا، ويشعرنا بأن بعض أفراد الأمة قد يكونون أحيانا أعلم منه ـ ﷺ ـ بما يتقنونه من أمور الدنيا، والمقصود أهل الخبرة في كل فن وصناعة، وأنه لا داعي شرعا لالتفاتهم إلى ما يصدر عنه ـ ﷺ ـ من ذلك إلا كما يلتفتون إلى قول غيره من الناس.
3- ما ذكر ابن إسحق في سيرته في سياق غزوة بدر، قال: حدثت عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر، قال: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فنزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسوله الله ـ ﷺ ـ: لقد أشرت بالرأي.
4- ما ورد في الحديث أن نفرا دخلوا على زيد بن ثابت، فقالوا له: حدثنا أحاديث رسول الله ـ ﷺ ـ. قال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له. فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرها الطعام ذكره معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله ـ ﷺ.
5- ما ورد عن هشام بن عروة، أن عروة بن الزبير كان يقول لعائشة ” يا أماه، لا أعجب من فهمك ، أقول: زوجة رسول الله ـ ﷺ ـ وبنت أبي بكر. ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول: ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس، أو من أعلم الناس. ولكن أعجب من علمك بالطب ، كيف هو ومن أين هو؟ ” قال: فضربت على منكبه، وقالت: ” أي عرية ! إن رسول الله ـ ﷺ ـ كان يسقم عند آخر عمره، أو في آخر عمره. فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فينعتون له الأنعات ، وكنت أعالجها له “. وممن صرح بهذه القاعدة بصفتها العامة من الأصوليين القدامى القاضي عبد الجبار. وصرح به حديثا الشيخ ولي الله الدهلوي ، والشيخ محمد أبو زهرة ، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ عبد الجليل عيسى ، والشيخ فتحي عثمان.
أما من حيث التفصيل فقد قال ابن خلدون: ” الطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل (يعني طب البادية المبني على تجارب قاصرة) وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديا للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي ـ ﷺ ـ من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه ـ ﷺ ـ إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع. فقال: ” أنتم أعلم بأمور دنياكم “. قال: ” فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم النفع، وليست ذلك في الطب المزاجي”.
وقال القاضي عياض في الشفاء: (فصل) فأما أحواله في أمور الدنيا فنحن نسير بها على أسلوبنا المتقدم بالاعتقاد والقول والفعل. فأما العقد بها يعني اعتقادها، فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن، بخلاف أمور الشرع . ثم ذكر القاضي عياض حديث تأبير النخل، وحديث الخرص ، ثم قال: وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها، لا ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه وسنة سنها.
ثم ذكر القاضي عياض حديث ابن إسحاق في قصة غزوة بدر، وما أشار به الحباب بن المنذر على النبي ـ ﷺ ـ، وأنه قال: ” أشرت بالرأي ” وفعل ما قاله. وقد قال الله تعالى له ـ ﷺ ـ ( وشاورهم في الأمر) ، وأراد مصالحة بعض عدوه على ثلث ثمار المدينة، فاستشار الأنصار، فلما أخبروه برأيهم رجع عنه. قال القاضي عياض: فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها يجوز عليه فيها ما ذكرناه، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجلها همه وشغل نفسه بها ، والنبي ـ ﷺ ـ مشحون القلب بمعرفة الربوبية ، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية.
ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة. انتهى كلام القاضي عياض.
وقال شاه ولي الله الدهلوي: ” باب بيان أقسام علوم النبي ـ ﷺ ـ: اعلم أن ما روي عن النبي ـ ﷺ ـ ودون في كتب الحديث على قسمين:
أحدهما ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فمنه علوم المعاد، وعجائب الملكوت، ومنه شرائع وضبط للعبادات والارتفاقات الخ.
والقسم الثاني: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله ـ ﷺ ـ ” إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر ” وقوله ـ ﷺ ـ في قصة تأبير النخل ” إني إنما ظننت ظنا ولا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لم أكذب على الله ”
وقول زيد بن ثابت حيث دخل عليه نفر، فقالوا له: حدثنا أحاديث رسول الله ـ ﷺ ـ. قال: كنت جاره. فكان إذا نزل عليه الوحي بعوث إلي ، فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله ـ ﷺ ـ؟! وقال الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه ” تاريخ المذاهب الإسلامية ” في شأن حديث تأبير النخل ” الحديث يتعلق بالصناعات وفنون الزراعة، وتثمير الأشجار، فهل يتصور أن النبي يمكن أن يكون حجة وذا خبرة في فنون الزراعة والتجارة، وصناعة الزجاج والجلود، ونسج الأقطان والحرير، وغير ذلك مما يتعلق بالمهن المختلفة!؟ إن كانوا يتصورون ذلك، فقد خلطوا خلطا كبيرا، ولن يميزوا بين رسول جاء بشرع من السماء، وصانع ذي خبرة فنية، وتاجر عالم بالأسواق. إن الحديث وارد في مثل موضوعه، وهو تأبير النخل وغيره من الصناعات والزراعات ونحوها، فما كان الرسول مبعوثا لمثل هذا، والتشريع فوق هذا، وهو الذي جاء به النبي ” ا هـ كلام الشيخ أبي زهرة.