هؤلاء الناس الذين يدعون أن الله عز وجل إنما حرم الربا في القرض الذي يحتاجه المقترض ليستهلكه في حاجاته المعيشية الأصلية لنفسه أو لأهله وأولاده، أما ما يقترضه التجار وأصحاب رؤوس الأموال لتجاراتهم وأعمالهم الإنتاجية فإن الله لم يحرمها، والآيات والأحاديث الدالة على حرمة ربا الدين، بمعزل عنها.
والشبهة التي يتمسكون بها هي إن المقرض لما كان عقد إرفاق وتيسير على الناس، في أصل مشروعيته وندب الشارع الناس إليه، ناسب إن يكون بعيدا عن اشتراط الربا، إذ من شأنه أن يفسد هذه الحكمة، ويعود إليها بالنقض.
ما حكم أخذ قرض استثماري من البنك؟
إنما يكون القرض إرفاقا بالمقترض، إذا كان اقتراضه يعود بالتسيير عليه بعد عسر، أي بحيث يستفيد المقترض من المال الذي اقترضه لحاجة من حاجاته الاستهلاكية التي يعود بها على نفسه أو على أهله وأولاده.
فأما التاجر الموسر الذي يقترض ليوسع من تجارته، وليزيد من أرباحه، فإن إقراض الناس له أبعد ما يكون من معنى الإرفاق، إذ أن هذا الإقراض له لا ينجيه من عسر ولا يخلصه من كرب، كيف وهو غير معسر ولا مكروب، وإذا اختفى الإرفاق الذي هو المانع من الربا، فقد جاز للممنوع أن يعود، وذلك طبقا للقاعدة الفقهية القائلة: إذا ذهب المانع عاد الممنوع.
وربما استدل بعض هؤلاء الناس بدليل آخر، هو المصلحة الداعية في هذا العصر إلى تنشيط الأعمال التجارية والصناعية التي لا يمكن لها أن تنشط إلا بالتعامل مع المصارف الربوية، وإذا تحققت المصلحة جاز لها أن تخصص النص الدال على حرمة الربا عموما.
ونقول في الجواب عن هذه الشبهة التي لا نشك أنها مصطنعة:
أولا- من أين ثبت لهؤلاء الناس أن علة تحريم الربا هي تعارضها مع مقتضى الإرفاق لو كان الأمر كذلك لكان امتناع المقرض عن الاستجابة للمقترض في إقراضه أشد حرمة من الربا، لأن ذلك أشد تناقضا مع الإرفاق، فهل من قائل بأن امتناع الإنسان عن أن يقترض صاحبه مالا، تورط في محرم.
إن تحريم الشارع للربا ليس إلا تطبيقا لقاعدة اقتصادية معروفة، هي: أن المال لا يولد من المال، وإنما يولد المال من المنفعة يطرحها الإنسان في المجتمع، ولما كان التعامل بالربا استيلادا للمال من المال، أي على النقيض من هذا القانون الاقتصادي، فقد اقتضت المصلحة التي هي محور أحكام الشريعة، تحريمه، وسد كل ذريعة إليه.
أما الإرفاق فوصية أخلاقية، يدعى الناس إلى أن يتعاملوا على أساسها، من وراء هذا القانون الراسخ الذي لا مناص من اتباعه، وجد الإرفاق أو لم يوجد.
ثانيا- ألم يكن الفقهاء من السلف بدءا من عصر الصحابة أهلا لأن يعلموا هذا الذي يقتضيه الإرفاق في القروض الاستهلاكية، ثم لا يقتضيه في القروض الإنتاجية، ليتنبهوا هم الآخرون إلى أن الربا محرم في القروض الاستهلاكية وحدها؟ فهل سمع أحد ممن يحمل لواء هذه الشبهة أو من غيرهم أن في الفقهاء السابقين، أيا كانوا وفي أي عصر وجدوا، من فرق بين القروض الإنتاجية والاستهلاكية فحرم الربا في الثانية وأباحها في الأولى؟
ربما جاء من يقول :إن القروض الربوية في العصر الجاهلي وصدر الإسلام كانت كلها قروضا استهلاكية ولذلك حرم الشارع الربا فيها
ولكني أقول: إنها الجهالة بالغة، ممن يدعي هذا الكلام أن يقول ذلك ؛كانت القروض العربية تبلغ عشرات الآلاف، وربما تجاوز القرض الواحد مائة ألف درهم، وكان المقرضون يتخذون من مراباتهم بهذه القروض تجارة رابحة كبرى، أفكانت هذه القروض الضخمة كلها معونة استهلاكية ضرورية لمعسرين، ومتى كان الرجل البدوي الذي لا تكلفه معيشته، مهما ارتفعت، أكثر من بضعة دراهم، يحتاج في معيشته الاستهلاكية هذه إلى عشرات الآلاف من الدراهم، ومتى كان العربي البدوي في ذلك العصر يعيش هذه الحياة المترفة الباذخة ؟
كانت الأعمال التجارية ناشطة في الجاهلية وصدر الإسلام، وكانت القوافل التجارية الغادية رائحة ما بين الشمال والجنوب، ولعل رأس المال التجاري هو الأساس الاقتصادي الوحيد أو الأول آنذاك، وما أكثر ما كانت هذه القوافل تقترض وتقرض، بل محال أن تقوم تجارة مستمرة ناشطة دون اعتماد على قروض، وهل كان أصحاب رؤوس الأموال، من بني عبد المطلب وأغنياء ثقيف، وبني عمرو بن عوف ، وغيرهم إلا ممولين لهذه القروض؟
فكيف يصح بعد هذا لمثقف أن يأتي فيزعم أن القروض الربوية المعروفة في صدر الإسلام كانت كلها قروضا استهلاكية، ومن هذا القارئ الساذج الذي يصدق هذا الكلام ليتصور أن الرجل العربي في العصر الجاهلي كان يسكن في قصر باذخ منيف، وكانت قيعان قصره هذا مملوءة بأدوات اللهو والترف التي تعج بها حضارة القرن العشرين، مما يضطره إن يقترض بين الحين والآخر عشرات الآلاف من الدراهم ليسد بها عوزه وفاقته.
ثالثا- من المبادئ الفقهية المفروغ منها هذا المبدأ الذي نلخصه فيما يلي:
المصلحة التي تتراءى للباحث الفقهي لا تعدو واحدة من ثلاثة أقسام:
1- مصلحة نص الشارع على مشروعية الأخذ بها، فهذه داخلة ضمن سلطان النصوص، كمصالح البيوع والرهن والشركات.
2- مصلحة نص الشارع على حكم جاز على وفقها، فهذه داخلة في الأحكام القياسية الموصولة بالنصوص عن طريق العلة القياسية، كمصلحة قتل سائر الحيوانات الضارة في الحرم، قياسا على الفواسق الخمسة التي أفتى رسول الله ﷺ بقتلها في الحل والحرم.
3- مصلحة داخلة في عموم المقاصد الخمسة التي ثبت أنها محور أحكام الشريعة الإسلامية، ولكن لم يرد نص عليها بخصوصها، ولم يأت أي حكم من الشارع على وفقها فهذه تسمى مصلحة مرسلة، ومعنى مرسلة أي أنها طليقة عن أي نص يؤيدها أو يعارضها كل ما في الأمر أنها مندرجة في عموم المقاصد الخمسة.
فهذه الأقسام الثلاثة من المصالح مرعية ومعتبرة من الشارع أولها تستوعبه النصوص وهو أقواها ثانيها يندرج في القياس وهو يأتي في الرتبة الثانية ثالثها يندرج في المصالح المرسلة وهو يأتي في الدرجة الثالثة والأخيرة.
فأما ما وراء ذلك فلا يعدو أن يكون مصلحة موهومة باطلة ،وهي المصلحة التي جاء نص من الكتاب أو السنة بنقيضها، وتسمى مصلحة ملغاة.
مثال ذلك: تصور وجود مصلحة في خروج المرأة سافرة غير ملتزمة بالحجاب الذي أمرها الله به، أو تصور وجود مصلحة في ترويج الميسر أو تيسير أسباب الفواحش، أو تصور أي مصلحة في الأعمال الربوية المنصوص على تحريمها.
فهذه أمثلة لمصالح وهمية، ومن ثم فهي ملغاة في ميزان الشريعة الإسلامية، وذلك لمعارضة النصوص الشرعية لها، فكيف يمكن القول باعتبارها وهي ملغية، ثم يمكن القول مع ذلك بنهوضها إلى تخصيص النصوص، أي إلى الهيمنة عليها والتحكم بها.
هل توجد مصلحة من التعامل بالربا في القروض الإنتاجية؟
إن الله عز وجل لم يلغ مفسدة ظهرت للناس في صورة مصلحة، إلا أقام في مكانها مصلحة حقيقية خالية عن الشوائب وعندما ألغى الله عز وجل الربا من القروض، أقام مكانه عقد القراض أو ما يسمونه بالمضاربة، إن للمقرض بموجب هذا العقد إن يشترط على المقترض الذي يتاجر بالقرض الذي أخذ منه أن يعطيه نسبة يتم الاتفاق عليها، من الربح الذي يحققه المال الذي أقرضه إياه.
فهذه هي المصلحة الحقيقية، لا تلك وبوسعك أن تعلم ذلك من خلال القواعد الاقتصادية والموازين الأخلاقية، دونما حاجة إلى أي شرح أو تطويل.