يقول الأستاذ وصفي عاشور أبو زيد:

الذي لا شك فيه أن عذاب القبر ثابت بما لا يدع مجالا للشك، وهو عندنا -نحن المسلمين- عقيدة لا تقبل الشك أو المماراة؛ لقوله تعالى: {وَحَاقَ بآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45-46]. قال ابن كثير: “وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور”.

هل عذاب الميت في القبر حقيقة

في السنة أحاديث كثيرة تشير إلى ثبوت هذه العقيدة، أشهرها حديث البراء بن عازب الذي في مسند الإمام أحمد يروي فيه خروج النبي وصحابته في جنازة رجل من الأنصار، وغيرها مما سنشير إلى بعضه لاحقا، وبناء عليه فلسنا في حاجة لإثباته أو الإيمان به عن طريق رؤية بعض الأجساد محترقة متفحمة.

** على أن عذاب الآخرة -بما في ذلك البرزخ– أمور غيبية تدخل في الإيمان بالغيب، بل هي أسه ولبه، ولا يستقيم معنى الغيب -عقلا- أن يكون ظاهرا لنا نحن البشر، وإلا لم يكن للإيمان به قيمة ولا معنى.

والذي أومن به إيمانا لا يخالطه ريب أن الغيب غيب، ولا يُطْلع الله الإنسان عليه إلا من شاء من رسله، كما قال تعالى في سورة الجن: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26]، وقد ثبت بالفعل أن النبي رأى أو سمع طرفا منه، في الوقت الذي لم يره أحد ممن حوله؛ فعن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ إِذْ حَادَتْ بِهِ، فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ، -قَالَ كَذَا كَانَ يَقُولُ الْجُرَيْرِيُّ-، فَقَالَ: “مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الأَقْبُرِ؟” فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: “فَمَتَى مَاتَ هَؤُلاءِ؟”، قَالَ: “مَاتُوا فِي الإِشْرَاكِ”، فَقَالَ: “إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا؛ فَلَوْلا أَنْ لا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ… [رواه مسلم والنسائي].

وروى الإمام أحمد في مسنده بسنده عن أنس بن مالك أن النبي -- قال: “…. وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ لَهُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً فَيَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ”.

فثبت أن الثقلين -الإنس والجان- لا يسمعون شيئا من عذاب القبر، وأمثال هذا في أحاديث كثيرة، وهو مما يؤكد غيبية هذه الأمور وعدم معقولية إظهار ما فيها لنا.

هل عذاب القبر للجسد أم للجسد

** يضاف إلى ذلك أن هناك أقوالا لعلمائنا -والمفسرون في مقدمتهم- تقضي بأن التعذيب للروح لا للجسد؛ فيقول ابن كثير مثلا في تفسيره لآية سورة غافر التي أسلفناها: “وليس فيها -أي في الآية- دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور؛ إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح” [تفسير ابن كثير: 7/147، طبع دار طيبة].

وقد ذكر الإمام الطبري أقولا كثيرة للمفسرين الأوائل تدل على أن المقصود في الآية هو أرواح آل فرعون. [انظر تفسير الطبري: 21/395، وما بعدها، مؤسسة الرسالة بتحقيق آل شاكر].

حرمة جسد الميت في الإسلام

هناك أمر هام ينبغي الإشارة إليه، وهو حرمة جسد الميت، وأنه لا يجوز عرضه بهذا الشكل لغرض الوعظ والاتعاظ؛ فهذا يخالف حرمة الجسد التي نبه عليها الشرع الحنيف؛ بل لا يجوز إخراج جسد الميت من قبره إلا لضرورة، وإن رئي عليه شيء -إن كان حديث عهد بقبره بالطبع- فلا يجوز التحدث به؛ استجابة للنصوص التي تأمر بذكر محاسن الموتى كما صح في السنة الطاهرة، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما هو معلوم.

** على أن عندنا من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وما فيهما من مشاهد وقصص ما يكفينا للاتعاظ والعبرة، ولا يحوجنا إلى مثل هذه الأساليب، لا في الدعوة ولا في غيرها، والتي ربما أوقعتنا في محظورات متعددة، ومن أراد واعظا فالموت يكفيه… وكفى.

الدعوة ووسائل الاتصال الحديثة

يقول الأستاذ مسعود صبري:

استخدام الوسائل الحديثة في الدعوة أمر واجب في فقه الدعوة؛ فإنه ما يمكن للدعاة أن يتخلفوا عن ركب الناس في الوسائل التي يستعملونها؛ بل لو كان الأخذ بالتطور واجبا في مجالات الحياة؛ فهو أكثر وجوبا في حق الدعاة؛ فالدعاة ليسوا متعبدين بالوسائل، المهم أن يصلوا للمقصود من دعوة الناس إلى العمل الصالح والتوحيد الخالص ونشر دعوة الله للناس.

بل من حق الدعوة على الدعاة أن يبتكروا وسائل جديدة، وأن تكون متنوعة، تناسب المدعوين زمانا ومكانا وحالا، وأن يختبروا تلك الوسائل من حيث الإفادة منها، وتفعليها في أوساط المدعوين.
أما فيما يخص بعض الفيديوهات التي تظهر بعض الغرائب التي قد يكون المقصود منها ترهيب الناس من المعصية، والخوف من سوء العاقبة؛ فإن مثل هذه الأعمال، وإن كانت محمودة القصد فإنها من الأمور التي يحوطها الشك، بل هي للخيال أقرب، وأحسبها غير صحيحة.

بل أرى أن مثل هذه الأشياء ليست وسائل لرد الناس إلى دين الله تعالى؛ فإن كان من الناس من لا يرده إلا الترهيب فمن الناس من لا يرده إلا الترغيب، وكما أشار الإمام ابن القيم رحمه الله إلى أن العبادة لله ليست عبادة تسلط وجبر، بل هي عبادة مقربة وحب؛ فنحن نريد من الناس أن يحبوا الله تعالى، وأن يدركوا أنه أهل للعبادة والتوحيد، وأن يتقربوا إليه شوقا وحبا؛ فالحب الصادق يسوق إلى الخوف الصادق، فيسير المسلم في طريقه إلى الله تعالى كطائر له جناحان: جناح الخوف وجناح الرجاء.

ومثل هذه الأمور لم نجدها في سيرة الرسول إلا ما كان يوحى للنبي ؛ فيأتي على سبيل الحكاية، فيرويه الرسول للصحابة من باب الاتعاظ، وما أذكر أنه صح عن الصحابة في عهد الرسول أنهم رأوا مثل هذه الأشياء.
فحياة القبر -أو ما يعرف بحياة البرزخ- هي من الغيب الذي لا يطلع عليه إنس ولا جن، بل ورد أن أهل القبور يعذبون فيسمع عذابهم كل شيء إلا الإنس والجن.

المسخ في أمة الإسلام

من المعلوم ما عليه جمهور العلماء أن الأمة حفظها الله تعالى من المسخ، بل إن ما حكى القرآن عن مسخ بني إسرائيل قردة -{فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]- فإن من العلماء من نفى المسخ عنهم حقيقة، وجعله مجازا.

وأيا ما كان فإن منهج الإسلام يربي المسلم على الخوف من الله والحب له، ومثل ما يقوم به البعض فربما يكون نوعا من “الدبلجة”، وهي وسيلة مقصدها حسن، لكني أراها غير صحيحة، وهي شبيه بمن كان يضع الأحاديث وينسبها للنبي ؛ فحين كُلم في هذا قال: “إنما لعن الرسول من كذب عليه، وأنا أكذب له”!!، وهو قياس خاطئ لا صحة له في ديننا.

وفي ديننا من الإيمان بالغيب وما صح من عذاب القبر ما فيه كفاية وغنى عن مثل هذه “المفبركات”.
كما أننا نريد أن نربط الناس بكتاب الله تعالى، وما صح عن النبي من السنة، وما يستفاد من تاريخ الأمة، وفي السنن الكونية عبرة لكل معتبر.