يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله- :
صح في الأحاديث المتفق عليها أن النبي ﷺ نهى عن الحلف بغير الله ، ونقل الحافظ ابن عبد البر الإجماع على عدم جوازه قال بعضهم : أراد بعدم الجواز ما يشمل التحريم والكراهة ؛ فإن بعض العلماء قال : إن النهي للتحريم وبعضهم قال : إنه للكراهة، وبعضهم فصَّل فقالوا : إذا تضمن الحلف تعظيم المحلوف به كما يعظم الله تعالى كان حرامًا ، وإلا كان مكروهًا .
أقول : وكان الأظهر أن يقال : إن المحرم أن يحلف بغير الله تعالى حلفًا يلتزم به فعل ما حلف عليه والبر به ؛ لأن الشرع جعل هذا الالتزام خاصًّا بالحلف به أي بأسمائه وصفاته ، فمن خالفه كان شارعًا لشيء لم يأذن به الله، وبهذا يفرق بين اليمين الحقيقي وبين ما يجيء بصيغة القسم من تأكيد الكلام وهو من أساليب اللغة .
وقد قالوا بمثل هذه التفرقة في الجواب عن قول النبي ﷺ للأعرابي : ( أفلح وأبيه إن صدق ) فقد ذكروا له عدة أجوبة منها نحو ما ذكرناه ، قال البيهقي : إن ذلك كان يقع من العرب ويجري على ألسنتهم من دون قصد للقسم ، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف، قال النووي في هذا الجواب : إنه هو الجواب المرضي، وأجاب بعضهم بقوله : إن القسم كان يجري في كلامهم على وجهين للتعظيم وللتأكيد ، والنهيُ إنما وقع عن الأول، وأقول : إن هذا عندي بمعنى قول البيهقي، وقيل : إنه نسخ وقيل : إنه خصوصية للنبي ﷺ وقد ردوهما .
والظاهر أن ما كان من حلف قريش بآبائها كان يقصد به التعظيم والالتزام ما حلف عليه ، ولذلك كان من أسباب النهي وإلا فلأنهم مشركون غالبًا .
روى أحمد والشيخان في صحيحيهما عن ابن عمر أن النبي ﷺ سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال : ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ) وفي لفظ ( من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله ) فكانت قريش تحلف بآبائها فقال : (لا تحلفوا بآبائكم) رواه مسلم والنسائي .
وروى الشيخان عنه أيضًا ( من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله ) رفعه إلى النبي ﷺ وهو حصر ، وفي معناه حديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وابن حبان والبيهقي مرفوعًا ( لا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون ) .
فهذه الأحاديث الصحيحة ، ولا سيما ما ورد بصيغة الحصر منها ، صريحة في حظر الحلف بغير الله تعالى ، ويدخل النبي ﷺ في عموم (غير الله تعالى) والكعبة وسائر ما هو معظم شرعًا تعظيمًا يليق به ؛ ولا يجوز أن يعظم شيء كما يعظم الله عز وجل ولا سيما التعظيم الذي يترتب عليه أحكام شرعية ، ولقد كان غلو الناس في أنبيائهم والصالحين منهم سببًا لهدم الدين من أساسه واستبدال الوثنية به.