للصيام حكما عديدة ، ففيه تزكية للنفس وتدريبها على كمال العبودية لله ، وفيه حفظ لصحة البدن ، وإعلاء وانتصار للجانب الروحي على الجانب المادي ، وذلك بتربية الإرادة وجهاد النفس والتعويد على الصبر ، وكسر الشهوة الجنسية ، ومن حكمه إشعار الصائم بنعمة الله تعالى عليه، ولمس إحساس الفقراء والمحرومين ، فيصل الإنسان إلى درجة التقوى والارتقاء في منازل المتقين.

يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :

لم يُشَرِّع الإسلام شيئًا إلا لحكمة ، عَلِمَها مَن عَلِمَها ، وجهلها من جهلها ، وكما لا تخلو أفعال الله تعالى من حكمة فيما خلق ، لا تخلو أحكامه سبحانه من حكمة فيما شرع . فهو حكيم في خلقه، حكيم في أمره ، لا يخلق شيئًا باطلاً ، ولا يشرع شيئًا عبثًا ، وهذا ينطبق على العبادات وعلى المعاملات جميعًا ، كما ينطبق على الواجبات والمحرمات أيضًا.

إن الله تعالى غني عن العالمين ، وعباده جميعًا هم الفقراء إليه ، فهو سبحانه لا تنفعه طاعة ، كما لا تضره معصية ، فالحكمة في الطاعة عائدة إلى مصلحة المكلفين أنفسهم .

وفي الصيام حِكَم ومصالح كثيرة أشارت إليها نصوص الشرع ذاتها ، منها :-

1- تزكية النفس بطاعة الله فيما أمر ، والانتهاء عما نهى ، وتدريبها على كمال العبودية لله تعالى ، ولو كان ذلك بحرمان النفس من شهواتها ، والتحرر من مألوفاتها ، ولو شاء لأكل أو شرب ، أو جامع امرأته ، ولم يعلم بذلك أحد ولكنه ترك ذلك لوجه الله وحده ، وفي هذا جاء الحديث : “والذي نفسي بيده لخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ، كل عمل ابن آدم له ، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به” (متفق عليه من حديث أبي هريرة) ، (اللؤلؤ والمرجان -706).

2- أن الصيام ، وإن كان فيه حفظ لصحة البدن – كما شهد بذلك الأطباء المُختصون – ففيه أيضًا : إعلاء للجانب الروحي على الجانب المادي في الإنسان ، فالإنسان – كما يصوره خلق آدم – ذو طبيعة مزدوجة ، فيه عنصر الطين والحمأ المسنون ، وفيه عنصر الروح الإلهي الذي نفخه الله فيه ، عنصر يشده إلى أسفل ، وآخر يجذبه إلى أعلى ، فإذا تَغلَّب عنصر الطين هبط إلى حضيض الأنعام ، أو كان أضل سبيلا ، وإذا تغلب عنصر الروح ارتقى إلى أفق الملائكة ، وفي الصوم انتصار للروح على المادة ، وللعقل على الشهوة ، ولعل هذا سر الفرحة اليومية التي يجدها كل صائم كلما وفق إلى إتمام صوم يوم حتى يفطر ، والتي عبر عنها الحديث النبوي : “للصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح بفطره ، وإذا لقي ربه فرح بصومه” (متفق عليه ، اللؤلؤ والمرجان -707).

3- يؤكد هذا أن الصوم تربية للإرادة وجهاد للنفس ، وتعويد على الصبر ، والثورة على المألوف ، وهل الإنسان إلا إرادة ؟ وهل الخير إلا إرادة ؟ وهل الدين إلا صبر على الطاعة ، أو صبر عن المعصية؟ والصيام يتمثل فيه الصبران.

ولا غَرْو أن سَمَّى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـشهر رمضان : “شهر الصبر” ، وجاء في الحديث : ” صوم شهر الصبر ، وثلاثة أيام من كل شهر ، يذهبن وحَر الصدر” (رواه البزار عن علي وابن عباس ، والطبراني والبغوي عن النمر بن تولب ، كما في صحيح الجامع الصغير –3804) . ومعنى “وَحَر الصدر” : أي غِشَّه ووساوسه ، وقيل : الحقد والغيظ وقيل غيره.

كما اعتبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ”الصيام جُنَّة” (وردت هذه الجملة في عدة أحاديث عن عدد من الصحابة منها: عن أبي هريرة في الصحيحين) . أي درعًا واقية من الإثم في الدنيا ، ومن النار في الآخرة ، وفي الحديث: “الصيام جُنَّة من النار كجُنَّة أحدكم من القتال” ( رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان عن عثمان بن أبي العاص ، كما في صحيح الجامع الصغير -3879) . “الصيام جُنّة ، وهو حصن من حصون المؤمن” رواه الطبراني عن أبي أمامة ، وحسنه في (صحيح الجامع الصغير) -3881).

4- ومن المتفق عليه أن الغريزة الجنسية من أخطر أسلحة الشيطان في إغواء الإنسان ، حتى اعتبرتها بعض المدارس النفسية هي المحرك الأساسي لكل سلوك بشري والناظر إلى معسكر الحضارة الغربية اليوم ، وما يعاني من انحلال وأمراض يتبين له أن انحراف هذه الغريزة كان وراء كثير من الأوحال التي يرتكس فيها.

وللصوم تأثيره في كسر هذه الشهوة ، وإعلاء هذه الغريزة ، وخصوصًا إذا دووم عليه ابتغاء مثوبة الله تعالى ، ولهذا وصفه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـللشباب الذي لا يجد نفقات الزواج ، حتى يغنيه الله من فضله ، فقال:”يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء” (رواه البخاري عن ابن مسعود في كتاب الصوم وغيره ، ومسلم 1400). والباءة : كناية عن النكاح ، والوجاء : الخصاء ، والمراد : أنه يضعف الشهوة إلى النساء.

5- ومن حكم الصوم : إشعار الصائم بنعمة الله تعالى عليه ، فإن إلْف النعم يفقد الإنسان الإحساس بقيمتها ، ولا يعرف مقدار النعمة إلا عند فقدها ، وبضدها تتميز الأشياء.

فإنما يحس المرء بنعمة الشِّبَع والرِّيّ إذا جاع أو عطش ، فإذا شبع بعد جوع ، أو ارتوى بعد عطش، قال من أعماقه: الحمد لله ، ودفعه ذلك إلى شكر نعمة الله عليه. وهذا ما أشير إليه في حديث رواه أحمد والترمذي ، قال فيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “عَرَضَ عليّ ربي ليجعلَ لي بطحاءَ مكة ذهبًا ، فقلت: لا يا رب ، ولكني أشبع يومًا ، وأجوع يومًا ، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك!” (رواه أحمد والترمذي عن أبي أمامة ، وحسنه السيوطي تبعًا للترمذي ، فاعترضه المناوي بأن في سنده ثلاثة ضعفاء).

6- وهناك حكمة اجتماعية للصيام (وخصوصًا صيام رمضان) : أنه – يفرض الجوع إجباريًا على كل الناس ، وإن كانوا قادرين واجدين – يوجد نوعًا من المساواة الإلزامية في الحرمان ، ويزرع في أنفس الموسرين والواجدين الإحساس بآلام الفقراء والمحرومين . أو كما قال ابن القيم : يذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين .

وقال العلامة ابن الهمام : إنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ، ذكر من هذا حاله في عموم الأوقات ، فتسارع إليه الرقة عليه (فتح القدير -42/2).

وفي هذا التذكير العملي الذي يدوم شهرًا ، ما يدعو إلى التراحم والمواساة والتعاطف بين الأفراد والطبقات بعضهم وبعض ، ولهذا رُوي في بعض الأحاديث تسمية رمضان “شهر المواساة” (روى ذلك من حديث سلمان عند ابن خزيمة في صحيحه ، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان) . وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـفيه أجود بالخير من الريح المرسلة (فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما) .

ومن أجل هذا كان من أفضل ما يثاب عليه : تفطير الصائم ، وفي الحديث : “من فطر صائما كان له مثل أجره ، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا” (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن زيد بن خالد ، كما في صحيح الجامع الصغير -6415).

7- وجماع ذلك كله : أن الصيام يعدّ الإنسان لدرجة التقوى ، والارتقاء في منازل المتقين ، يقول الإمام ابن القيم : (وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة ، والقوى الباطنة ، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها ، أفسدتها ، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها ، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات ، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى :  ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)البقر ة :185 ، (زاد المعاد 29/2).

والحق أن صيام رمضان مدرسة متميزة ، يفتحها الإسلام كل عام ، للتربية العملية على أعظم القيم ، وأرفع المعاني ، فمن اغتنمها وتعرض لنفحات ربه فيها ، فأحسن الصيام كما أمره الله ، ثم أحسن القيام كما شرعه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد نجح في الامتحان ، وخرج من هذا الموسم العظيم رابح التجارة ، مبارك الصفقة ، وأي ربح أعظم من نوال المغفرة والعتق من النار؟. روى أبو هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.. ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه” (متفق عليه من حديث أبي هريرة) .