قرر الشارع الحكيم الكفارات مَحْوًا للذنوب، وعلاجًا للأخطاء التي يقع فيها المسلم، وبهذا قضت الحكمة الإلهية أن يكون لذنْب المؤمن كفَّارة تُغطيه وتمحو آثاره، فيعود العبد إلى ربه بفعْل الكفارة صافيًا، مطمئن القلب، مستريح الضمير.
تكفير الذنوب؟
يقول الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق-رحمه الله:
إن الإنسان ـ بما رُكِّبَ فيه من قُوَّتَيِ الشهوة والغضب ـ عُرضة للوقوع في الذنوب والسيئات بمُخالفة أوامر الخير والطاعات، ولا يَسلم من ذلك إلا بعِصْمَةٍ من الله تَحُول بينه وبين شهْوته وغضبه.
ومن رحمة الله بالمؤمن أن شرَع له وسائل كثيرة إذا فعلها وقام بها على وجهها طهُرت نفسه مِن أدْران المعصية السابقة، وقَوِيَتْ على طرد بواعث المَعصية اللاحقة، وبذلك يحصل على علاج ما وقع، وعلى الوقاية مما يتوقع.
ولو تنبَّه المؤمن إلى تلك الوسائل العلاجية الوقائية، وامْتثل إرشادها؛ لأقبلَ على الله طاهرًا نَقِيًّا، ورَاضِيًا مَرْضِيًّا، ولأقبل اللهُ عليه، عَفُوًّا كَرِيمًا، غَفورًا رحيمًا، وهذه الوسائل، التي شُرعتْ علاجًا للذنوب ووقايةً منها، هي المعروفة في لسان الشرْع باسم “الكفَّارة” .
ويَهُمُّنَا أن نعرف أن الشارع الحكيم ـ حين قرَّر الكفارات مَحْوًا للذنوب، وعلاجًا للأخطاء التي يقع فيها المسلم ـ قد قصد إلى أن يحتفظ المسلم بالروح المعنوية في علاقته بربه، فلا يقطع أمله من الله في أيِّ حالٍ حتى في حال الذنْب والعِصيان.
وليس من ريب في أن المرء إذا أذنب ثم راجعه ضميرُه تمنَّى لو أن شيئًا من الأشياء محَا عنه هذا الذنب لافتدى به وقدَّمه في سبيل طُهْره طائعًا مختارًا، فرحًا مسرورًا، وبهذا قضت الحكمة الإلهية أن يكون لذنْب المؤمن كفَّارة تُغطيه وتمحو آثاره، فيعود العبد إلى ربه بفعْل الكفارة صافيًا، مطمئن القلب، مستريح الضمير. ولا يظل الذنب عالقًا بعُنقه يفسد ما بينه وبين ربه. ولقد كان في متَّسع عفْو الله ومغفرته أن يمحو عن عبده هذا الذنب دون شيءٍ يفعله العبد. ولكن يُريد أن تكون تزكية نفسه، وطُهر قلبه بشيء يبذله في مقابلة محْو الذنب، توجيهًا له نحو العمل ونحو البذْل ونحو الطاعة (مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنْتُمْ). (الآية: 146 من النساء).
الحكمة في تخصيص أفعال مُعيَّنة للتكفير؟
بالنظر في أنواع هذه الكفارات نجدها لا تخرج في جملتها على ثلاثة أشياء: تحرير الرقيق إنْ وجد، والصوم، والبٍرّ بالفقراء. وليس من ريبٍ في أنَّ أيَّ واحد من هذه الثلاثة يُحقق للمجتمع بالكفارات أنواعًا من الفوائد الاجتماعية، تعود عليه بكثير من البر والخير والسموِّ، وترفع من شأن الإنسانية إلى درجة التهذيب والتضامن الاجتماعي الذي يُحقق التعاطُف والتراحُم بين بَنِي الإنسان.
فتحرير الرقيق باب واسع من أبواب الحرية، فتَحه الشارع في الكفارات على مِصْراعيه ليَضُمَّ به إلى المجمع الإنساني أعضاء نافعين، يُحييهم بعد موتهم الأدبي، ويُحقِّق لهم بالعتْق شخصيتهم القانونية، وما الرِّقُّ في واقعه إلا موتٌ أدبيٌّ وما الحرية في واقعها إلا حياة.
وقد بلغت عناية الإسلام بهذا النوع من الإحياء الأدبي أن أدخله في معظم الكفارات، وجعله مصرفًا من مصارف الزكاة، وجعله إحدى العَقبتين اللتين إذا اقتحمهما المؤمن أمِن عذاب الله وغضبه، وفي العِتْق ـ حين يكون كفارةً للقتْل الخطأ ـ معنى آخر، وهو تعويض المجتمع عن النفس المَقتولة بإحياء نفسٍ أخرى هي نفس العبد الرقيق، تُشاركه في تحمُّل أعباء الإنسانية، ولعله يُجْدي عليها بشخصيته الجديدة خيرًا كثيرًا.
أما الصوم: فلا يخفى ما فيه من تهذيب النفس، وتقويم الخُلق، والتعويد على الصبر، وضبط الإرادة في تحمل الشدائد، واستقبال الآلام بقوة وعزيمة، وما أشدَّ حاجة الأمم إلى تسلُّح أبنائها بهذه المعاني التي تُعِدُّهم لمُكافحة الطوارئ ومُصارعة الأحداث.
أما البر بالفقراء فهو مِن أسمى مَطالب الإسلام؛ فكتاب الله يحضُّ عليه بكثير من الأساليب المُختلفة، ولا نكاد نجد سورة من سوره تخلو عن التصريح بسُمُوِّ البر بالفقراء والمساكين، وكذلك كانت تعاليمُ الرسولِ وأحواله أمثلةُ عُليا في الحضِّ على إطعام الطعام والبِرِّ بالفقير والمسكين، كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ أجود الناس بالخير، يَمينُه كالريح المُرسلة، يَهَبُ تارةً ويتصدَّق تارة، ويُهدي ثالثة، ويقترض فيردّ أكثر منه وأفضل، وكذلك كان أصحابه على مثل حاله من الجُود والبِرِّ، وهذا أبو موسى يُحدث أن رسول الله ـ ﷺ ـ يقول: “إن الأشعريينَ إذا أرْمَلُوا في الغزْو أو قَلَّ طعام عيالهم في المدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم، وحسب أصحابه في المقام قوله ـ تعالى ـ في شأنهم: (يُحِبُّونَ مَن هاجَرَ إليهمْ ولا يَجِدُونَ في صُدورِهمْ حاجَةً ممَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ علَى أنْفُسِهِمْ ولوْ كانَ بهمْ خَصَاصةٌ. ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأُولئكَ همُ المُفلحونَ). (الآية: 9 من سورة الحشر).