الحروف المقطعة أول السور أسماءٌ للسور على الراجح عند المحققين ، ووراءها معانٍ أخرى يعرفها بعض الخواص توافق المعاني الظاهرة وتزيد عليها بما لا يخالفها ، وهذا ضرب من ضروب إعجاز القرآن .
يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:
إنَّ ( حم ) ونظائرها أسماء للسور على الراجح عند المحققين ، ودلالة الاسم على المسمى بينة لا عوج فيها ، وأنتم تعلمون أن : ( الأسماء لا تعلَّل ) فلا يقال : لماذا سميت السورة المعلومة ( ن ) فإن كانت سميت به لذكر الحوت فيها والنون من أسماء الحوت فلماذا سمي غيرها بأسماء حروف مفردة ومركبة لا يعرف لها معنى غير تلك الحروف ؟ لا يقال هذا ؛ لأننا إذا جوزنا أن يقال لقيل في جميع الأسماء ولذلك قالوا : الأسماء لا تعلل .
وأما الذين يقولون بأن لتلك الحروف إشارات لمعانٍ سامية تعلو أفهام العوام ، ولا يعرفها إلا الراسخون من العلماء الربانيين ، فقولهم هذا – إذا صح – لا ينافي أنها أسماء للسور ، وأن القرآن مبين وظاهر يتيسر لكل من يعرف اللغة العربية مفرداتها وأساليبها أن يفهمه ويهتدي به .
ومثال هذا في المحسوسات الأهرام ، فإن جميع المؤرخين والقارئين للتاريخ يعرفون الغرض منها ، ثم إن الرياضي منهم يستخرج من مساحة أضلاعها وهيئة أوضاعها ما لا يعرفه غيره ممن عرف معناها والغرض منها ، ولم يعلم أن تلك الأطوال والعروض وضعت بالمقادير المخصوصة لتدل على مقاييس البلاد في الزمن الذي بنيت فيه وغير ذلك .
فكل ما يمكن استخراجه من القرآن بطريق معقول فلا ينبغي أن يتوقف في قبوله ؛ لأنه لم يهتدِِ إليه إلا بعض الخواص ، وأما الذي لا يقبل فهو ما كانت دلالته على معناه غير وضعية ولا عقلية كاستخراج المعاني من هذه الحروف بالعدد الذي يسمونه حساب الجُمل ، وهذا المعنى الذي قلناه ظاهر عند أهله في العلوم العالية المشروحة في القرآن وأعني العلوم الإلهية والغيبية فإن آياتها ظاهرة للعارف باللغة فهي في غاية البيان ووراءها معانٍ أخرى يعرفها بعض الخواص ، وهي توافق المعاني الظاهرة ، وتزيد عليها بما لا يخالفها ولكنه يَدِقُّ عن أفهام العامة ، وهذا ضرب من ضروب إعجاز القرآن .
نعم إن كون القرآن مبينًا لا يمكن أن يجامع القول بالتقليد الذي يزعم أهله أن الكتاب والسنة المبينة له لم يفهمها إلا نفر ماتوا ، ولا يمكن أن يوجد بعدهم من يفهمهما !