وسائل الثبات على الحق كثيرة ،وأهمها أن يتوجه الإنسان بقلبه لله أن يثبته ،ويمكن إجمال أهم وسائل الثبات فيما يلي:
أولاً : الإقبال على القرآن.
ثانياً : التزام شرع الله والعمل الصالح.
ثالثاً : تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل.
رابعاً : الدعاء.
خامساً : ذكر الله.
سادساً : الحرص على أن يسلك المسلم طريقاً صحيحاً.
سابعا: التربية.
ثامناً : الثقة بالطريق.
تاسعاً : ممارسة الدعوة إلى الله عز وجل.
عاشراً : الالتفاف حول العناصر المثبتة.
الحادي عشر : الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام.
الثاني عشر : معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به.
الثالث عشر : استجماع الأخلاق المعينة على الثبات.
الرابع عشر :وصية الصالحين.
الخامس عشر : التأمل في نعيم الجنة وعذاب النار وتذكر الموت.
يقول الشيخ محمد صالح المنجد:
فإن الثبات على دين الله مطلب أساسي لكل مسلم صادق يريد سلوك الصراط المستقيم بعزيمة ورشد .
وتكمن أهمية الموضوع في أمور منها :
1- وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون ، وأنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون ، وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريباً ، فنال المتمسكون به مثلاً عجيباً ( القابض على دينه كالقابض على الجمر ) .
ولا شك عند كل ذي لب أن حاجة المسلم اليوم لوسائل الثبات أعظم من حاجة أخيه أيام السلف ، والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر ؛ لفساد الزمان ، وندرة الإخوان ، وضعف المعين ، وقلة الناصر .
2- كثرت حوادث الردة والنكوص على الأعقاب ، والانتكاسات حتى بين بعض العاملين للإسلام مما يحمل المسلم على الخوف من أمثال تلك المصائر ، ويتلمس وسائل الثبات للوصول إلى برٍ آمن .
3- ارتباط الموضوع بالقلب ؛ الذي يقول النبي ـ ﷺ ـ في شأنه : ( لقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القدر إذا اجتمعت غلياً ) رواه أحمد 6/4 والحاكم 2/289 وهو في السلسلة الصحيحة 1772 .
ويضرب عليه الصلاة والسلام للقلب مثلاً آخر فيقول : ( إنما سمي القلب من تقلبه ، إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح طهراً لبطن ) رواه أحمد 4/408 وهو في صحيح الجامع 2361 . فسبق الحديث قول الشاعر :
وما سمي الإنسان إلا لنسيانه ولا القلب إلا أنه يتقلب
فتثبيت هذا المتقلب برياح الشهوات والشبهات أمر خطير يحتاج لوسائل جبارة تكافئ ضخامة المهمة وصعوبتها .
وسائل الثبات على الحق:
ومن رحمة الله عز وجل بنا أن بين لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرته ـ ﷺ ـ وسائل كثيرة للثبات . نستعرض معك أيها القارئ الكريم بعضاً منها :
أولاً : الإقبال على القرآن :
القرآن العظيم وسيلة الثبات الأولى ، وهو حبل الله المتين ، والنور المبين ، من تمسك به عصمه الله ، ومن اتبعه أنجاه الله ، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم .
نص الله على أن الغاية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب منجماً مفصلاً هي التثبيت ، فقال تعالى في معرض الرد على شُبه الكفار : ( وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة ، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً ، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً ) الفرقان /32 .
لماذا كان القرآن مصدراً للتثبيت:
1- لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله .
2- لأن تلك الآيات تتنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن فلا تعصف به رياح الفتنة ، ويطمئن قلبه بذكر الله .
3- لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يُقوِّم الأوضاع من حوله ، وكذا الموازين التي تهيئ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه ، ولا تتناقض أقوله باختلاف الأحداث والأشخاص .
4- أنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر الأول.
وهذه نماذج من الشبهات التي ردها القرآن الكريم :
1- ما هو أثر قول الله عز وجل : ( ما ودعك ربك وما قلى ) الضحى /3 على نفس رسول الله ـ ﷺ ـ ، لما قال المشركون : ( ودع محمد … ) أنظر صحيح مسلم بشرح النووي 12/156 .
2- وما هو أثر قول الله عز وجل : ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) النحل /103 لما ادعى كفار قريش أن محمداً ـ ﷺ ـ إنما يعلمه بشر وأنه يأخذ القرآن عن نجار رومي بمكة ؟
3- وما هو أثر قول الله عز وجل : ( ألا في الفتنة سقطوا ) التوبة /49 في نفوس المؤمنين لما قال المنافق : ” ائذن لي ولا تفتني ” ؟
أليس تثبيتاً على تثبيت ، وربطاً على القلوب المؤمنة ، ورداً على الشبهات ، وإسكاتاً لأهل الباطل .. ؟ بلى وربي .
ومن العجب أن الله يعد المؤمنين في رجوعهم من الحديبية بغنائم كثيرة يأخذونها ( وهي غنائم خيبر ) وأنه سيعجلها لهم وأنهم سينطلقون إليها دون غيرهم وأن المنافقين سيطلبون مرافقتهم وأن المسلمين سيقولون لن تتبعونا وأنهم سيصرون يريدون أن يبدلوا كلام الله وأنهم سيقولون للمؤمنين بل تحسدوننا وأن الله أجابهم بقوله: ( بل كانوا لا يفقهون حديثاً ) ثم يحدث هذا كله أمام المؤمنين مرحلة بمرحلة وخطوة بخطوة وكلمة بكلمة .
– ومن هنا نستطيع أن ندرك الفرق بين الذين ربطوا حياتهم بالقرآن وأقبلوا عليه تلاوة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً ، ومنه ينطلقون ، وإليه يفيئون ، وبين من جعلوا كلام البشر جل همهم وشغلهم الشاغل .
– ويا ليت الذين يطلبون العلم يجعلون للقرآن وتفسيره نصيباً كبيراً من طلبهم .
ثانياً : التزام شرع الله والعمل الصالح :
قال الله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) إبراهيم /27 .
قال قتادة : ” أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح ، وفي الآخرة في القبر ” . وكذا روي عن غير واحد من السلف تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/421 . وقال سبحانه : ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ) النساء /66 . أي على الحق .
وهذا بيّن ، وإلا فهل نتوقع ثباتاً من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحة إذا أطلت الفتنة برأسها وأدلهم الخطب ؟! ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم صراطاً مستقيماُ . ولذلك كان ـ ﷺ ـ يثابر على الأعمال الصالحة ، وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل . وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه . وكانت عائشة رضي الله عنها إذا عملت العمل لزمته .
وكان ـ ﷺ ـ يقول : ( من ثابر على اثنتي عشرة ركعة وجبت له الجنة ) سنن الترمذي 2/273 وقال : الحديث حسن أو صحيح . وهو في صحيح النسائي 1/388 وصحيح الترمذي 1/131 . أي السنن الرواتب . وفي الحديث القدسي : ( ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ) رواه البخاري ، انظر فتح الباري 11/340 .
ثالثاً : تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل :
والدليل على ذلك قوله تعالى : ( وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) هود /120 .
فما نزلت تلك الآيات على عهد رسول الله ـ ﷺ ـ للتلهي والتفكه ، وإنما لغرض عظيم هو تثبيت فؤاد رسول الله ـ ﷺ ـ وأفئدة المؤمنين معه .
1- فلو تأملنا قول الله عز وجل : ( قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ، قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين ) الأنبياء /68-70 قال ابن عباس: ” كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار : حسبي الله ونعم الوكيل” الفتح 8/22
ألا نشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغيان والعذاب يدخل النفس ونحن نتأمل هذه القصة ؟
2- لو تدبرنا قول الله عز وجل في قصة موسى : ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، قال كلا إن معي ربي سيهدين ) الشعراء /61-62 .
ألا نحس بمعنى آخر من معاني الثبات عند ملاحقة الطالبين ، والثبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين ونحن نتدبر هذه القصة ؟ .
3- لو استعرضنا قصة سحرة فرعون ، ذلك المثل العجيب للجماعة التي ثبتت على الحق بعدما تبين .
ألا نرى أن معنى عظيماً من معاني الثبات يستقر في النفس أمام تهديدات الظالم وهو يقول : ( آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ، فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النجل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى ) طه /71
ثبات القلة المؤمنة الذي لا يشوبه أدنى تراجع وهم يقولون : ( لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ، فاقض ما أنت قاضٍ ، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) طه /72 .
4- وهكذا قصة المؤمن في سورة يس ومؤمن آل فرعون وأصحاب الأخدود وغيرها يكاد الثبات يكون أعظم دروسها قاطبة .
رابعاً : الدعاء :
من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم :
( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ) ، ( ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا ) . ولما كانت ( قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ) رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر مرفوعاً انظر مسلم بشرح النووي 16/204 . كان رسول الله ـ ﷺ ـ يكثر أن يقول : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) رواه الترمذي عن أنس مرفوعاً تحفة الأحوذي 6/349 وهو في صحيح الجامع 7864 .
خامساً : ذكر الله :
وهو من أعظم أسباب الثبات على الطاعة .
1- لنتأمل في هذا الاقتران بين الأمرين في قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً ) الأنفال /45 . فجعله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد .
” ونتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها ” ما بين القوسين مقتبس من كلام ابن القيم رحمه الله في الداء والدواء . بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين الله كثيراً .
2- وبماذا استعان يوسف عليه السلام في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها ؟ ألم يدخل في حصن ” معاذ الله ” فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه ؟
وكذا تكون فاعلية الأذكار في تثبيت المؤمنين .
سادساً : الحرص على أن يسلك المسلم طريقاً صحيحاً :
والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل السنة والجماعة ، طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية ، أهل العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل ، والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل ..
سابعاً : التربية :
التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة عامل أساسي من عوامل الثبات على الحق .
التربية الإيمانية : التي تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة ، المنافية للجفاف الناتج من البعد عن نصوص القرآن والسنة ، والعكوف على أقاويل الرجال .
التربية العلمية : القائمة على الدليل الصحيح المنافية للتقليد والأمعية الذميمة .
التربية الواعية : التي لا تعرف سبيل المجرمين وتدرس خطط أعداء الإسلام وتحيط بالواقع علماً وبالأحداث فهماً وتقويماً ، المنافية للانغلاق والتقوقع على البيئات الصغيرة المحدودة .
التربية المتدرجة : التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً ، ترتقي به في مدارج كماله بتخطيط موزون ، والمنافية للارتجال والتسرع والقفزات المحطمة .
أهمية التربية بكافة أنواعها للثبات على الحق:
لكي ندرك أهمية هذا العنصر من عناصر الثبات ، فلنعد إلى سيرة رسول الله ـ ﷺ ـ ونسائل أنفسنا .
1- ما هو مصدر ثبات صحابة النبي ـ ﷺ ـ في مكة ، إبان فترة الاضطهاد ؟
2- كيف ثبت بلال وخباب ومصعب وآل ياسر وغيرهم من المستضعفين وحتى كبار الصحابة في حصار الشعب وغيره ؟
3- هل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة ، صقلت شخصياتهم ؟
لنأخذ رجلاً صحابياً مثل خباب بن الأرت رضي الله عنه ، الذي كانت مولاته تحمي أسياخ الحديد حتى تحمر ثم تطرحه عليها عاري الظهر فلا يطفئها إلا ودك ( أي الشحم ) ظهره حين يسيل عليها ، ما الذي جعله يصبر على هذا كله ؟ .
4- وبلال تحت الصخرة في الرمضاء ، وسمية في الأغلال والسلاسل ..
5- وسؤال منبثق من موقف آخر في العهد المدني ، من الذي ثبت مع النبي ـ ﷺ ـ في حُنين لما انهزم أكثر المسلمين ؟ هل هم حديثو العهد بالإسلام ومُسلِمة الفتح الذين لم يتربوا وقتاً كافياً في مدرسة النبوة والذين خرج كثير منهم طلباً للغنائم ؟ كلا .. إن غالب من ثبت هم أولئك الصفوة المؤمنة التي تلقت قدراً عظيماً من التربية على يد رسول الله ـ ﷺ ـ .
لو لم تكن هناك تربية ترى هل كان سيثبت هؤلاء ؟
ثامناً : الثقة بالطريق :
لا شك أنه كلما ازدادت الثقة بالطريق الذي يسلكه المسلم ، كان ثباته عليه أكبر .. ولهذا وسائل منها :
1- استشعار أن الصراط المستقيم الذي تسلكه ليس جديداً ولا وليد قرنك وزمانك ، وإنما هو طريق عتيق ( عتيق صفة مدح ) قد سار فيه من قبلك الأنبياء والصديقون والعلماء والشهداء والصالحون ، فتزول غربتك ، وتتبدل وحشتك أنساً ، وكآبتك فرحاً وسروراً ، لأنك تشعر بأن أولئك كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج.
2- الشعور بالاصطفاء ، قال الله عز وجل : ( الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ) النمل /59 . وقال : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) فاطر /32 . وقال : ( وكذلك يجتبك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ) يوسف /6 . وكما أن الله اصطفى الأنبياء فللصالحين نصيب من ذلك الاصطفاء وهو ما ورثوه من علوم الأنبياء .
3- ماذا يكون شعورك لو أن الله خلقك جماداً ، أو دابة ، أو كافراً ملحداً ، أو داعياً إلى بدعة ، أو فاسقاً ، أو مسلماً غير داعية لإسلامه ، أو داعية في طريق متعدد الأخطاء ؟
4- ألا ترى أن شعورك باصطفاء الله لك وأنْ جعلك داعية من أهل السنة والجماعة من عوامل ثباتك على منهجك وطريقك ؟
تاسعاً : ممارسة الدعوة إلى الله عز وجل :
النفس إن لم تتحرك تأسن ، وإن لم تنطلق تتعفن ، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس : الدعوة إلى الله ، فهي وظيفة الرسل ، ومخلصة النفس من العذاب ؛ فيها تتفجر الطاقات ، وتنجز المهمات ( فلذلك فادع ، واستقم كما أمرت ) . وليس يصح شيء يقال فيه ” فلان لا يتقدم ولا يتأخر ” فإن النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية ، والإيمان يزيد وينقص .
والدعوة إلى المنهج الصحيح – ببذل الوقت ، وكدّ الفكر ، وسعي الجسد ، وانطلاق اللسان ، بحيث تصبح الدعوة هم المسلم وشغله الشاغل – يقطع الطريق على محاولات الشيطان بالإضلال والفتنة .
زد على ذلك ما يحدث في نفس الداعية من الشعور بالتحدي تجاه العوائق ، والمعاندين ، وأهل الباطل ، وهو يسير في مشواره الدعوي ، فيرتقي إيمانه ، وتقوى أركانه .
فتكون الدعوة بالإضافة لما فيها من الأجر العظيم وسيلة من وسائل الثبات ، والحماية من التراجع والتقهقر ، لأن الذي يُهاجم لا يحتاج للدفاع ، والله مع الدعاة يثبتهم ويسدد خطاهم والداعية كالطبيب يحارب المرض بخبرته وعلمه ، وبمحاربته في الآخرين فهو أبعد من غيره عن الوقوع فيه .
عاشراً : الالتفاف حول العناصر المثبتة :
تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام : ( إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر ) حسن رواه ابن ماجة عن أنس مرفوعاً 237 وابن أبي عاصم في كتاب السنة 1/127 وانظر السلسلة الصحيحة 1332 .
البحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين ، والالتفاف حولهم معين كبير على الثبات . وقد حدثت في التاريخ الإسلامي فتن ثبت الله فيها المسلمين برجال .
ومن ذلك : ما قاله علي بن المديني رحمه الله تعالى ” أعز الله الدين بالصديق يوم الردة ، وبأحمد يوم المحنة .
وتأمل ما قاله ابن القيم رحمه الله عن دور شيخه شيخ الإسلام في التثبيت : ” وكنا إذا اشتد بنا الخوف ، وساءت بنا الظنون ، وضاقت بنا الأرض أتيناه ، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا ، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة ، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل ، وآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها ” . الوابل الصيب ص 97 .
وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت ، فإخوانك الصالحون أيها المسلم والقدوات والمربون هم العون لك في الطريق ، والركن الشديد الذي تأوي إليه فيثبتوك بما معهم من آيات الله والحكمة .. الزمهم وعش في أكنافهم وإياك والوحدة فتتخطفك الشياطين فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية .
الحادي عشر : الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام :
نحتاج إلى الثبات كثيراً عند تأخر النصر ، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها ، قال تعالى : ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ) آل عمران /146-148 .
ولما أراد رسول الله ـ ﷺ ـ أن يثبت أصحابه المعذبين أخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن فماذا قال ؟
جاء في حديث خباب مرفوعاً عند البخاري : ( وليُتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف الله والذئب على غنمه ) رواه البخاري ، انظر فتح الباري 7/165 .
فعرض أحاديث البشارة بأن المستقبل للإسلام على الناشئة مهم في تربيتهم على الثبات .
الثاني عشر : معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به :
في قول الله عز وجل : ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ) آل عمران /196 تسرية عن المؤمنين وتثبيت لهم .
وفي قوله عز وجل : ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) الرعد /17 عبرة لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له .
ومن طريقة القرآن فضح أهل الباطل وتعرية أهدافهم ووسائلهم ( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ) الأنعام /55 حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة ، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام .
وكم سمعنا ورأينا حركات تهاوت ودعاة زلت أقدامهم ففقدوا الثبات لما أتوا من حيث لم يحتسبوا بسبب جهلهم بأعدائهم .
الثالث عشر : استجماع الأخلاق المعينة على الثبات :
وعلى رأسها الصبر ، ففي حديث الصحيحين : ( وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر ) رواه البخاري في كتاب الزكاة – باب الاستعفاف عن المسألة ، ومسلم في كتاب الزكاة – باب فضل التعفف والصبر . وأشد الصبر عند الصدمة الأولى ، وإذا أصيب المرء بما لم يتوقع تحصل النكسة ويزول الثبات إذا عدم الصبر .
1- تأمل فيما قاله ابن الجوزي رحمه الله : ” رأيت كبيراً قارب الثمانين وكان يحافظ على الجماعة فمات ولد لابنته ، فقال : ما ينبغي لأحد أن يدعو ، فإنه ما يستجيب . ثم قال : إن الله تعالى يعاند فما يترك لنا ولداً ” الثبات عند الممات لابن الجوزي ص34 تعالى الله عن قوله علواً كبيراً .
2- لما أصيب المسلمون في أحد لم يكونوا ليتوقعوا تلك المصيبة لأن الله وعدهم بالنصر ، فعلمهم الله بدرس شديد بالدماء والشهداء : ( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟ قل هو من عند أنفسكم ) آل عمران /165 ماذا حصل من عند أنفسهم ؟
فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، منكم من يريد الدنيا .
الرابع عشر : وصية الرجل الصالح :
عندما يتعرض المسلم لفتنة ويبتليه ربه ليمحصه ، يكون من عوامل الثبات أن يقيض الله له رجلاً صالحاً يعظه ويثبته ، فتكون كلمات ينفع الله بها ، ويسدد الخطى ، وتكون هذه الكلمات مشحونة بالتذكير بالله ، ولقائه ، وجنته ، وناره .
وهذه الأمثلة من سيرة الإمام أحمد رحمه الله ، الذي دخل المحنة ليخرج ذهباً نقياً .
لقد سيق إلى المأمون مقيداً بالأغلال ، وقد توعده وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه ، حتى لقد قال خادم للإمام أحمد : ( يعز عليّ يا أبا عبد الله ، أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك ، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله ـ ﷺ ـ ، لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف ) البداية والنهاية 1/332 .
وهنا ينتهز الأذكياء من أهل البصيرة الفرصة ليلقوا إلى إمامهم بكلمات التثبيت ؛ ففي السير للذهبي 11/238 عن أبي جعفر الأنباري قال : ” لما حُمِل أحمد إلى المأمون أخبرت ، فعبرت الفرات ، فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه .
فقال : يا أبا جعفر تعنيت .
فقلت : يا هذا ، أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك ، فو الله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق ، وإن لم تُجب ليمتنعن خلق من الناس كثير ، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك ، فإنك تموت ، لابد من الموت ، فاتق الله ولا تجب . فجعل أحمد يبكي ويقول : ما شاء الله . ثم قال : يا أبا جعفر أعِد ..
فأعدت عليه وهو يقول : ما شاء الله … أ.هـ “
وقال الإمام أحمد في سياق رحتله إلى المأمون : ” صرنا إلى الرحبة منها في جوف الليل ، فعرض لنا رجل فقال : أيكم أحمد بن حنبل .
فقيل له : هذا . فقال للجمال : على رسلك .. ثم قال : ” يا هذا ، ما عليك أن تُقتل ها هنا ، وتدخل الجنة ” ثم قال : أستودعك الله ، ومضى .
فسألت عنه ، فقيل لي هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الصوف في البادية يقال له : جابر بن عامر يُذكر بخير ” سير أعلام النبلاء 11/241 .
وفي البداية والنهاية : أن أعرابي قال للإمام أحمد : ” يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم ، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه ، فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة ، وإن كنت تحب الله ، فاصبر على ما أنت فيه ، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل ” .
قال الإمام أحمد : وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عن ذلك الذي يدعونني إليه . البداية والنهاية 1/332
وفي رواية أن الإمام أحمد قال : ” ما سمعت كلمة وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة الأعرابي كلمني بها في رحبة طوق وهي بلدة بين الرقة وبغداد على شاطئ الفرات ، قال : ” يا أحمد إن يقتلك الحق متّ شهيداً ، وإن عشت عشت حميداً .. فقوي قلبي ” سير أعلام النبلاء 11/241 .
ويقول الإمام أحمد عن مرافقة الشاب محمد بن نوح الذي صمد معه في الفتنة :
ما رأيت أحداً – على حداثة سنه ، وقدر علمه – أقوم بأمر الله من محمد بن نوح ، إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير .
قال لي ذات يوم : ” يا أبا عبد الله ، الله الله ، إنك لست مثلي ، أنت رجل يُقتدى بك ، قد مد الخلق أعناقهم إليك ، لما يكون منك ، فاتق الله ، واثبت لأمر الله . فمات وصليت عليه ودفنته . سير أعلام النبلاء 11/242 .
وحتى أهل السجن الذين كان يصلي بهم الإمام أحمد وهو مقيد ، قد ساهموا في تثبيته .
فقد قال الإمام أحمد مرة في الحبس : ” لست أبالي بالحبس – ما هو ومنزلي إلا واحد – ولا قتلاً بالسيف ، وإنما أخاف فتنة السوط “
فسمعه بعض أهل الحبس فقال : ” لا عليك يا أبا عبد الله ، فما هو إلا سوطان ، ثم لا تدري أين يقع الباقي ” فكأنه سُرِّي عنه . سير أعلام النبلاء 11/240 .
فاحرص أيها المسلم على طلب الوصية من الصالحين : وأعقلها إذا تليت عليك .
1- اطلبها قبل سفر إذا خشيت مما قد يقع فيه .
2- اطلبها أثناء ابتلاء ، أو قبل محنة متوقعة .
3- اطلبها إذا عُينت في منصب أو ورثت مالاً وغنى .
وثبت نفسك ، وثبت غيرك والله ولي المؤمنين .
الخامس عشر : التأمل في نعيم الجنة وعذاب النار وتذكر الموت :
والجنة بلاد الأفراح ، وسلوة الأحزان ، ومحط رحال المؤمنين والنفس مفطورة على عدم التضحية والعمل والثبات إلا بمقابل يهوّن عليها الصعاب ، ويذلل لها ما في الطريق من عقبات ومشاق .
فالذي يعلم الأجر تهون عليه مشقة العمل ، وهو يسير ويعلم بأنه إذا لم يثبت فستفوته جنة عرضها السموات والأرض ، ثم إن النفس تحتاج إلى ما يرفعها من الطين الأرضي ويجذبها إلى العالم العلوي.
وكان النبي ـ ﷺ ـ يستخدم ذكر الجنة في تثبيت أصحابه ، ففي الحديث الحسن الصحيح مر رسول الله ـ ﷺ ـ بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذن في الله تعالى فقال لهم : ( صبراً آل ياسر صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) رواه الحاكم 3/383 ، وهو حديث حسن صحيح ، انظر تخريجه في فقه السيرة تحقيق الألباني ص103 .
وكذلك كان ـ ﷺ ـ يقول للأنصار : ( إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ) متفق عليه .
وكذلك من تأمل حال الفريقين في القبر ، والحشر ، والحساب ، والميزان ، والصراط ، وسائر منازل الآخرة .
كما أن تذكر الموت يحمي المسلم من التردي ، ويوقفه عند حدود الله فلا يتعداها . لأنه إذا علم أن الموت أدنى من شراك نعله ، وأن ساعته قد تكون بعد لحظات ، فكيف تسول له نفسه أن يزل ، أو يتمادى في الانحراف ، ولأجل هذا قال ـ ﷺ ـ : ( أكثروا من ذكر هادم اللذات ) رواه الترمذي 2/50 وصححه في ارواء الغليل 3/145 .