يقول الدكتور حسام الدين عفانة – أستاذ الفقه بجامعة القدس

التنكيس مأخوذ من النكس وهو قلب الشيء ورده وجعل أعلاه أسفله ومقدمه مؤخره .
والتنكيس في قراءة القرآن له معنيان هما :
1. أن يبدأ من آخره أي من المعوذتين ثم يرتفع إلى البقرة ويختم بالفاتحة .
2. أن يبدأ من آخر السورة فيقرأها إلى أولها مقلوباً . تاج العروس 9/22 .
إذا تقرر هذا فينبغي أن يعلم أن السنة لقارئ القرآن سواء أكان في الصلاة أم خارجها أن يقرأ حسب ترتيب السور في المصحف .
قال الإمام النووي :[ قال العلماء : الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف فيقرأ الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ثم ما بعدها على الترتيب سواء قرأ في الصلاة أو في غيرها حتى قال بعض أصحابنا : إذا قرأ في الركعة الأولى سورة ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِ النَاسِ ) يقرأ في الثانية بعد الفاتحة من البقرة . قال بعض أصحابنا : يستحب إذا قرأ سورة أن يقرأ التي تليها ودليل هذا أن ترتيب المصحف إنما جعل هكذا لحكمة فينبغي أن يحافظ عليها … ] التبيان في آداب حملة القرآن ص51-52 .
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي :[ والمستحب أن يقرأ في الركعة الثانية سورة بعد السورة التي قرأها في الركعة الأولى في النظم لأن ذلك هو المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم ] المغني 1/356 .
فإذا لم يلتزم القارئ في قراءته بترتيب السور في القرآن الكريم فقرأ في الركعة الثانية سورة تقع في المصحف قبل السورة التي قرأها في الركعة الأولى جازت قراءته ولا شيء في ذلك وصلاته جائزة باتفاق العلماء .
فقد ثبت في الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال :[ صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلاً إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح وإذا مرّ بسؤال سأل وإذا مرّ بتعوذ تعوذ ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم ، فكان ركوعه نحواً من قيامه ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع ثم سجد فقال : سبحان ربي الأعلى ، فكان سجوده قريباً من قيامه ] رواه مسلم .
ففي هذا الحديث نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ النساء ثم آل عمران وهذا على خلاف ترتيب المصحف وهو يدل على جواز ترك الترتيب ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام البخاري :[ أن الأحنف قرأ بالكهف في الأولى وفي الثانية بيوسف أو يونس وذكر أنه صلى مع عمر رضي الله عنه الصبح بهما ] رواه البخاري تعليقاً مجزوماً به . صحيح البخاري مع الفتح 2/399 .
قال القاضي عياض :[ لا خلا ف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى ] شرح النووي على صحيح مسلم 2/395 .
وبهذا يظهر لنا أن التنكيس بالمعنى الأول وهو أن يقرأ في الركعة الثانية بسورة قبل التي قرأ في الركعة الأولى جائز إن شاء الله ولا كراهة فيه والأولى أن تكون قراءته حسب ترتيب المصحف .
وأما التنكيس بالمعنى الثاني وهو أن يبدأ من آخر السورة فيقرؤها إلى أولها مقلوباً فقد ذكر كثير من أهل العلم أن ذلك محرم . قال الإمام النووي :[ وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منعاً متأكداً فإنه يذهب بعض ضروب الإعجاز ويزيل حكمة ترتيب الآيات ] التبيان في آداب حملة القرآن ص 52 . وهذا التنكيس الممنوع هو الذي حمل عليه قول ابن مسعود :[ عندما سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوساً . قال : ذلك منكوس القلب ] رواه الطبراني بإسناد جيد ورواه ابن أبي داود بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي في التبيان ص 52 .
قال القاضي عياض :[ وتأول نهي بعض السلف عن قراءة القرآن منكوساً على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها ] شرح النووي على صحيح مسلم 2/395 . وقال ابن مفلح :[ وتنكيس الكلمات محرم مُبْطِل ] أي مُبْطِل للصلاة. الفروع 1/422. وقال الدسوقي :[ وحَرُمَ تنكيس الآيات المتلاصقة في ركعة واحدة وأبطل الصلاة لأنه ككلام أجنبي ] حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/242 .
وقال القرطبي :[ وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوساً وقالا : ذلك منكوس القلب . فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة ويبتدئ من آخرها إلى أولها لأن ذلك حرام محظور ومن الناس من يتعاطى هذا في القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك ويقدر على الحفظ وهذا حظره الله تعالى ومنعه في القرآن لأنه إفساد لسوره ومخالفة لما قصد بها ] تفسير القرطبي 1/61 .