مفهوم التفرقة العنصرية:
يُقصد بالتفرقة العنصرية في العُرْف الحديث التمييز بين الأجناس في القوانين والمعاملات، على أساس الدم والخصائص البيولوجية المُتعلقة بتكوين الجسم . وما يتبع ذلك من الحياة الفكرية ومظاهر السلوك والاجتماع.
لقد صنَّف العلماء والباحثون في العلوم الإنسانية الأجناس البشرية إلى جماعات تجمع بين كلِّ منها خصائص ومُميزات طبيعية متوارثة في مجموعها، وإن كان هناك مجال للاختلاف البسيط بين أفرادها، ومن أبرز هذه الخصائص لوْن البشرة وشكل الجُمْجُمَة، وملامح الوجه وطول القامة، وقالوا: إن هذه الاختلافات الطبيعية يتبعها اختلاف في المواهب العقلية والقُوى النفسية وما إليها ورأى بعض هؤلاء أن تقسيم البشر إلى أجناس يرجع إلى الدم نفسه على خلاف فما بينهم على مقدار نِسبة ما يوجد من دم الآباء والأجداد في الإنسان حتى ينسب إلى هذا الجنس، وعلى أساس هذا التقسيم العُنصري قرر الباحثون أن هناك امتيازًا لبعض الأجناس على بعضهم الآخر، يحق للأجناس العالية أن تكون لها قوانين، وأن تُعامل معاملة خاصة، بخلاف الأجناس الأخرى التي لا ينبغي أن تدخل معها في هذه القوانين وتلك المعاملات.
هذا هو مفهوم التفرقة العُنْصرية في العُرف الحديث، والهدف منه ، وسيأتي بيان بطلان الأساس الذي قسَّموا عليه البشر، وزَيْف ما يهدفون إليه من أغراض.

التفرقة العنصرية في النظم القديمة:

إن فكرة التمييز بوجه عام بين بني الإنسان فكرة قديمة، ضرورة اختلاف الناس بعضهم عن بعض في القوة الجِسْمية والمواهب العقلية والمظاهر المادية، والتي كان من أثرها استعلاء بعضهم على بعض، واستغلال القويّ منهم للضعيف وتحكُّم الغَني في الفقير، وسيطرة العالِم على الجاهِل، والتي كان من أكبر مظاهرها الرِّق.
(أ) ففي الهِند مثلاً كانت كُتبهم المُقَدَّسة تُقَرِّر التفاضل بين الناس بحسب عناصرهم التي خُلقوا منها في زَعْمِهم، فتذكر أن “براهْمَا” خَلَقَ فَصيلة البَرْهَمِيين من فَمه، وَهم أشرف المخلوقات ولهم أرقى المناصب الدينية، وخَلَقَ فَصيلة الْكَشْتَريين أو الشاتري من ذِراعه، وهم الذين يتولَّون الوظائف الحَربية، وخَلق فصيلة الفِيشَائِيين أو الفاشا من فَخْذه، وهم الذين يقومون بالتجارة والإنتاج، وخَلق فصيلة السُّودرَائيين والمنبوذين من قَدمه، وهؤلاء لهم وظيفة واحدة هي خِدمة الطبقات السابقة.
(ب) وكان اليونان يعتقدون أنهم شعبُ مُخْتار، خُلِقوا من عناصر تختلف عن العناصر التي خُلِقت منها الشعوب الأخرى، التي كانوا يُطلقون عليها اسم “الْبَرْبَر” وقد قرَّر أرسطو في كتابه “السياسة” أن الآلهة خَلَقَت فَصِيلتين من الأنَاسِي، فَصِيلة زوَّدتها بالعقل والإرادة، وهي اليونان، وقد فَطَرَتها على هذا التكوين الكامل لتكون خَلِيفتها في الأرض، وسَيِّدة على سائر الخَلق، وفَصيلة لم تُزودها إلا بقوة الجسم وما يتصل اتصالاً مباشرًا به، وهم الْبَرابِرة أي ما عدا اليونان من بني آدم، وقد فُطِروا على هذا التقويم الناقص ليكونوا عبيدًا مُسَخَّرين للفَصيلة المُختارة المُصطفاة وكانوا يُقِرون الرِّق الذي يقول فيه أرسطو: إنَّ الرَّقيق آلة ذو رُوح، أو متاعٌ تقوم به الحياة، فهم لا يدخلونه في عِداد المخلوقات الإنسانية.
(جـ) وكان الرومان يعتقدون كما يعتقدُ اليونان أنهم سادةُ العالم، وأن غيرهم بَرابِرة خَدَمٌ لهم، وكانت قوانينهم تُقر الرِّق، وتُعامل الرَّقيق على أنه متاعٌ، مُدَّعين أن استعباده رحمة به من القتل الذي تتعرض له الحيوانات، وإلى جانب الاسترقاق بالحروب كانوا يَسْتَرقون الفقير إذا عجز عن أداء الدَّيْن، ولم تكن للرقيق حقوق قانونية ولا مدنية، ولا يستطيع أن يُقاضي سَيِّده أو يتظلم من سوء مُعاملته، بل كان لسيِّده الحقُّ في قتله دون مُجازاة، ولم يُخفف من حِدة هذه المُعاملة الدِّين المسيحي الذي اعتنقه الرومان بعد.
(د) والعرب في الجاهلية كانوا يعيشون على التفاخر بالأحساب والأنساب، ويعتقدون أنهم أفضلُ من غيرهم الذين كانوا يُطلقون عليهم اسم العَجَم، ولعلَّ ذلك كان أساسه اعتزاز العربي بلُغته الفصيحة التي لا يُوجَد لها مثيلٌ في العالم.
وكانوا بِناءً على ذلك يكرهون أن يتَلَوَّث دَمْهُم العربي النَّقي بدم غيرهم عن طريق الزواج، ويَأْنَفُون أن يُزَوِّجوا بنتًا من أحقر قبائلهم، كباهلة، وسلُول ـ إلى أعجمي حتى لو كان كِسرى نفسه، وقد خطب كسرى أبرويز بنت النعمان بن المُنْذِر فرفض النعمان مصاهرته، مع أنه كان أحد وُلاته. وكانت حرب طاحنة بين الفُرس والعرب، تكتلت فيها قبائلهم، من أجل حماية حرقة بنت النعمان أن يأخذها كسرى، وانتهت المعركة بانتصار العرب في موقعة (ذِي قَار).
وكان العرب يستخدمون الرَّقيق في الأعمال المنزلية وفي التجارة، بل كان يُمارس معهم الحرب أحيانًا، وإذا أُعْجبوا به أعتقوه وجعلوه أحد أعضاء الأسرة.

التفرقة عند اليهود والنصارى:

(أ) لقد ادَّعى اليهود أنهم شعب الله المُختار، وأن الإله الذي يعبدونه لا ينبغي أن يكون معبودًا لغيرهم من الناس الذين كانوا يُطلقون عليهم أُميين، قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤه) ، فكان ردُّ الله عليهم أنهم كغيرهم من خَلْقِه لا يفْضُل أحد على أحد إلا بالعمل فقال تعالى: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبْكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) (سورة المائدة : 18) وكانوا يعتقدون أن غيرهم من الأميين ليست لهم حقوق كحقوقهم، كما حكى الله عنهم بقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الُأمِّيِّين سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبََ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (سورة آل عمران : 75).
وكانوا يُبيحون استرقاق من عَداهم عند العَجْزِ عن الوفاء بالدَّيْن، ومَا يزال شعور التَّعالي والتعصُّب العنصري موجودًا لديهم حتى الآن، وكانت قِمته هي الصهيونية بمظاهرها وأساليبها المعروفة التي تتنافى مع الكرامة الإنسانية.
(ب) والمسيحية أقرَّت الرِّق كما أقرَّته اليهودية، وقد جاء في المُعجم الكبير للقرن التاسع عشر (لاروس)، لا يعجب الإنسان من بقاء الرِّق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم، فإن نُوَّاب الدِّين الرسميين يُقرون صحته، ويُسلِّمون بمشروعيته، وجاء فيه: الخلاصة أن الدِّين المسيحي ارتضى الاسترقاق تمامًا إلى يومنا هذا، ويتعذَّر على الإنسان أن يثبت أنه سعى في إبطاله، كما أثبت ذلك أيضًا (قاموس الكتاب المُقدس) للدكتور جُورج يوسف.
وظل الرِّق مُعترفًا به بين المسيحيين، وكثُر كثرة فاحشة بعد اكتشاف أمريكا وجلْب الرقيق للعمل بها، وكان الاتِّجار على أَشُدِّه بين الدول الاستعمارية، يمارسه ملوكها وكبار رجالها، مع قَسْوَة بالغة العُنف، برَّروها بأقوال من كُتبهم المُقدسة، وصدرت قوانين تنص على احتقار الجنس الأسود وإهدارِ كرامته، وكان مفكروهم ينادون بذلك، كما جاء في كتاب (روح القوانين) حيث قال مؤلفه (مونتيسكيو) الفرنسي في الفصل الخامس منه: إنَّ شعوب أوروبا بعد ما أبادت سكان أمريكا الأصليين، وهم الهنود الحُمْر، لم تر بُدًّا من استعمار شعوب أفريقيا، لكي تستخدمها في استغلال هذه الأقطار الشاسعة، فإن هذا الشعوب سُود البَشْرَة من أقدامهم إلى رءوسهم، ولا يمكن أن يتصور أحد أن الله ـ وهو ذو الحِكْمة البالغة ـ قد خلق روحًا ـ وعلى الأخص رُوحًا طيبة ـ في أجسام حالِكَة السَّوَاد.
وعلى الرغم من إبطاله قانونًا فإن الدول المسيحية مازالت تمارسه بلون آخر هو الاستعمار والتفرقة العُنْصرية على ما سيأتي بيانه.

العلم والتفرقة العنصرية:

-إن تقسيم البَشر إلى أَجْنَاس على أساس الدم أو التكوين الطبيعي للجسم قد قَرَّر العلماء المنصفون أخيرًا أنه تقسيم باطل، فإن مظاهر التقدُّم والرُّقي الموجودة عند بعض الجماعات لا يرجع سببها إلى ذلك، وإنما يرجع إلى عوامل من البيئة الطبيعية والظروف السياسية والأوضاع الاقتصادية والأجواء الثقافية، وقرَّروا أنه لو وُضِعَ شخصان من جنسين مُختلفين في بيئة حضارية وثقافية واجتماعية، واحدة ما كان هناك فرق يُذكر بينهما في الفِكْر والسُّلوك، وكم تقدَّم أفراد من أناس مُلونة على أفراد من البِيض في الجَامِعَات وفي النشاط الاجتماعي العام، وذلك عندما تَهيأت لهم الظروف التي تهيأت لغيرهم من الناس، ومن هنا لا تكون وراثة الخصائص البيولوجية مانعة من التقدُّم والحضارة عندما تتوافر الظروف للتطور والنهوض.
-فإذا كان هناك تخلُّف حضاري عند سُلالة من السلالات فَمَرَدُّه إلى العوامل الطبيعية والثقافية والسياسية وما إليها.
-وقد بحث العلماء بنوع خاص في عُنصرية اليهود، أكدوا أن الموجودين منهم الآن، وهم حوالي خمسة عشر مليونًا في العالم كلِّه، ليسوا من عُنصر واحد بحُكْم اختلاطهم بالأجناس الأخرى طوْعًا أو كَرهًا، وقد تحدث البحاثة “بيتار” عن ذلك وأثبت أنهم يكونون جماعات دينية واجتماعية قوية النُّفوذ وثيقة التضامن، غير أنها مُتباينة العناصر إلى أبعد الحدود وأكَّد أن الخُلص الذين هم من أصل آشوري برأسه المستطيل عددهم محدود جدًا، كما قرر ذلك أيضًا “هاتزجونتر” في كتابه “أصول الأجناس في التاريخ الأوروبي” وأكده أيضًا “كوماس” أستاذ التاريخ الطبيعي للأجناس البشرية، في الجامعة الوطنية بمكسيكو “انظر رسالة الدكتور العُمري في التفرقة العُنصرية، ومجلة العربي أكتوبر 1970”.

الاهتمام بالأبحاث العنصرية:

إنَّ الاهتمام بالبحث في الأجْناس وخصائصها ومُميزاتها لم يأخذ شكلاً واضحًا إلا في العصور المتأخرة، حين غلبت على بعض الأمم القوية نزعةُ الاستعمار والاستغلال للأمم الضعيفة المختلفة، أرادت به الدِّعاية لجنس مُعين، أو لفكرة سياسية يمكن عن طريقها التحكُّم في الأجناس الأخرى، وكثيرًا ما لجأت هذه الأفكار إلى الدِّين تستمد منه تأييدًا لها، كالصهيونية التي ادَّعت أنها شعبُ الله المُختار.

ولقد ظهرت هذه النَّغمة بالذات في أوروبا في العصر الحديث فبعد أن كانت دُولها لا تُفَرِّق بين مسيحي وغير مسيحي، وبعد أن كان يُفاخر بعضها البعض الآخر بالأخلاق والآثار أصبحت تتحدث عن الأجناس وخصائصها ، وتُفَرِّق بين جنس وآخر تبعًا لهذه الخصائص، كما يقول المؤرخ “توينبي“.
ويرجع ظهور هذه النغمة في أوروبا إلى أسباب منها:
(أ)
النزعة الاستعمارية التي تُبَرِّر نقاء الجنس الأبيض الأوروبي وزعامته لبقية الأجناس ، ووصايته عليها، كما مرت بوجه الاستعمار الأوروبي للشعوب الأخرى.
(ب) النَّزعة القومية المُعتدة بجنسها، والدَّاعية إلى وَحْدة شعوبها التي تنتمي إلى جنس واحد.

وفي ظلِّ هذه النَّزعة أيضًا سمعنا تمسُّك الشعب الألماني بفِكْرة نقاء أصله وسُلالته الآرية، وبخاصة بعد قيام الاتحاد الألماني في أعقاب الحرب السبعينية بين بروسيا وفرنسا، وجاءت نداءات : ألمانيا فوق الجميع، قوْل غُلْيوم الثاني: إنه مُنْتدب من الله لنُصْرَة الألمان على سائر شعوب أوروبا، وكذلك رأينا في الشرق الجنس الأصفر الياباني يعتز بنفسه أيضًا وينادي: آسيا للآسيويين ، ورأينا الإنجليز أيضًا ينادون بفكرة سيادة الإنجلوسكسون وتعاليهم على سكان أوروبا ما عدا الشمالَ.
(جـ) الانقلاب الصناعي والحاجة إلى الأيدي العاملة في المصانع، وسَوْق الآلاف من العمال لخِدْمَة الرأسماليين واستعبادهم وجلْبهم من الأجناس الأخرى والأمم المُخْتلفة، وإعطائهم أجورًا قليلة دون اعتراف لهم بحقوقٍ تحفظ كرامتهم.
(د) اكتشاف أمريكا والحاجة إلى استغلال خيراتها، الأمر الذي خلق تجارة الرقيق وجلْبهم من أفريقيا للعمل في مزارعها ثم في مصانعها.

آثار النزعة العنصرية:

لقد سخَّر المستعمرون والمُستغلون علماءهم لتبرير نقاء الجنس الأبيض وإثبات خصائص للألوان والأجناس، فزعموا أن الأجناس أربعة: هي: البيض والسُّود والصُّفر والحُمر، وأعلاها جميعًا الجنس الأبيض وقد علمتَ أن العلماء المُنصفين أثبتوا أن هذه الأجناس لم يَعُد لها وجود مُتميز الآن، فقد تداخلت وتلاقت بعوامل مُختلفة، وانتقلت خصائص بعضها إلى البعض الآخر، ولم يبق من الأجناس الصافية إلا قلة ضئيلة من الهنود الحمر، وفي وسط أفريقيا وحوْض الأمازون وبعض جُزر الباسفيكي وأهل أرض النار في جنوبي قارتي العالم الجديد.
لقد قال المستعمرون: إن السُّود والهنود الحُمر ليسوا من نَسْلِ آدم، فرُوحهم مُشتقة من أصل أقلَّ من الإنسان، وفي مَعمعة التطور الصناعي ومُعاملة الطبقات العاملة نشأت نظرية “داروين” في تطور النوع وبقاء الأصلح، وسادت نظرية “مندل” في الوراثة وظهرت مؤلفات كثيرة تبحث عن فِكْرَة عدم المساواة بين الأجناس البشرية وعن سيادة الجنس الآري، وتكونت مدرسة لها نظرياتها تزعمها الكونت “جوبينو” الفرنسي وكذلك “فاجنر” الموسيقي الألماني، ومثله “ستيوارت شامبرلين” الإنجليزي، وأيضًا (لوتروب ستودارد) الأمريكي ، وهؤلاء قالوا: إن الجنس الأبيض هو وحده مُنشئ الحضارة، وهو الجنس الآري المُنحدر من شمالي الهند والقوقاز، كما ظهرت نغمات: الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا.
مع هذا التزييف للحقائق العِلْمية والتحيُّز الظاهر في الأحكام على الأجناس البشرية الذي كان أثرًا من آثار النَّزعة العُنصرية الحديثة ـ كانت هناك آثار واضحة تطبيقية لهذه النزعة، من أهمها:
(أ) استعمار البيض للمُلوَّنين، وكسبهم مزايا سياسية واقتصادية انتعشت بها أوروبا، وفكَّت بها أزمتها، وكثرت تبعًا لذلك رؤوس الأموال الأجنبية في البلاد المُستعمرة، واستنزفت ثرواتها، كما كان من لوازم الاستعمار تخصيص محاكم ومصحات ونوادٍ وغير ذلك للسادة المستعمرين لا يتمتع بها المُلونون.
(ب) احتقار البيض لغيرهم، واستخدامهم المُزري لهم، كما كان يحدث في الهند، فقد كان الإنجليزي يركب على ظهر الهِندي ليستطيع أن يمتطي جواده، وفي الصين عندما كان يُجبر الصيني على جَرِّ العَرَبَة بالسائحين كالدَّابة سواء بسواء، وقد كُتبت لافتات على بعض الحدائق العامة في شنغهاي مدينة الامتيازات الأجنبية عبارة (محظور على الوطنيين والكِلاب دخول هذا المكان).
(جـ) العَزْل الاجتماعي والسياسي لأهل البلاد، وعدم تمكينهم من ممارسة نشاطهم في هذه المجالات، كما يظهر ذلك في جنوبي أفريقيا وروديسيا.
(د) إبقاء الوطنيين على التأخر والجهل والانحطاط، وذلك ليمكن للأجنبي التسلُّط عليهم، فإن من المُقرر عند المستعمرين أن تقدم الأهالي بخلق فرصة للمطالبة بالحرية والاستقلال، ولا شك أن ذلك كله يهدد الأمن الداخلي للبلاد التي تمارس التفرقة العنصرية، ويُزعزع أركان السلام العالمي، ويُثير الفتن والحروب بين الدول.

الإسلام والتفرقة العنصرية:

تحدثنا عن هذه المشكلة بمفهومها ومظاهرها وآثارها وتاريخها، لتكون على بَيِّنة من الأمر للحكم عليها من واقع نصوص الدين، ولْلتَعْرِف بوضوح أن الإسلام دين حق جاء بأرقى التشريعات لأرقى الأمم ولأرقى العصور، ومن المعروف أن صِدْقَ النتائج مرهون بصدق المُقدمات، وأن الحُكْمَ الصحيح يلزمه التصور الواضح للمحكوم عليه، ولعلمنا بأن العالم الإسلامي يملك رصيدًا ضخمًا من النصوص الدينية بخصوص هذه المشكلة .

أحببنا أن نعْطِيَه بعض الرصيد من المعرفة العامة نحوها، فلخَّصنا له كثيرًا من الأبحاث والكتب حول هذه القضية، ولعلَّ ما قدمناه يكون فيه غناء له يوفِّر جُهدًا كبيرًا في البحث ولهذا سيكون حديثنا عن موقف الإسلام من هذه القضية يميل إلى الاختصار والتركيز، معتمدًا على أن مراجع البحث الدِّيني كثيرة، والاطلاع عليها مُيَسَّر لكثير من المهتمين بهذا الموضوع، وحديثنا سيكون في نقطتين هامتين:

إحداهما: عن الفلسفة التي قام عليها موقف الإسلام من رفضه للتفرقة العنصرية.

ثانيهما: إيراد بعض المظاهر التطبيقية لهذه النظرة الإنسانية التي نظر بها الإسلام إلى البشر على اختلاف مستوياتهم.

أولا- فلسفة الإسلام في رفْضه للتفرقة العُنصرية:
(أ)
قرَّر الإسلام أن الناس جميعًا مخلوقون من أصل واحد هو التراب، قال تعالى: (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا . ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) (سورة نوح : 17، 18) وقال تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (سورة طه : 55) وجعل حياتنا كلها، ونشاطنا في جميع المجالات مرتبطًا بالأصل الذي خَلَقنا منه، وهو الأرض ووثَّق صلتنا بكلِّ ما يعيش عليها من حيوان ونبات، فهي أُمُّنا جميعًا، ونحن لها أبناء، لم يُخْلَق واحد منَّا من غير تُرْبتها، ولم يَعِشْ واحدٌ منَّا على غير خيرها، ولم يُدْفَن واحدٌ منَّا في غير بطنها.

(ب) قرَّر الإسلام أيضًا أننا مَوْلُودون من أب واحد هو آدم، فنسبنا جميعًا واحدٌ، ونحن إخوة في هذه الأسرة الإنسانية الواسعة، وإذا كان لبعض أفرادها نوع امتياز بلوْن أو شكل أو نشاط فذلك لا يغض من قيمته في أنه يشكِّل ركنًا أساسيًا في تآلف هذه المجموعة وتضامنها في عمارة الكون وتحقيق الخلافة في الأرض، كما يُعَبِّر بعض الكاتبين عن ذلك بقوله: الإنسانية كلُّها حديقة كبيرة تختلف ألوان أزهارها وما يفوح منها من عِطر دون أن يكون للون أو رائحة انفصال عن الآخر في إبراز بهجة هذه الحديقة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنَهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وِالأرْحَامَ) (سورة النساء : 1) وقال النبي ـ ـ “إن الله أذهب عنكم عَيْبَة الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مُؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خُلق من تراب” رواه أبو داود والترمذي وحسنه.

(جـ) قرَّر الإسلام أن الناس جميعًا مخلوقون لخالق واحد هو الله سبحانه، فمبدؤهم منه خَلْقًا، ونهايتهم إليه بعثًا وحسابًا قال تعالى:(فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (سورة يس: 83) وقال تعالى: (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَل مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيءٍ) (سورة الروم : 40) ، فهو وحده المُحيي والرازق والمُمِيت والمُعيد للنشور، وكلُّنا مدينون له بهذا كلِّه وليس له شريك فيه، سواء أقرَّ بذلك المؤمنون أم جحد المُلحدون، ومن هنا لا يكون لأحد منَّا فضل على الآخر في هذه النواحي الجامعة لمسيرة الحياة من مبدئها إلى منتهاها وما يجري بينهما.

(د) جعل الإسلام الناس مُوزعين إلى مجموعات نِسْبية على الرغم من اتفاقهم في هذه الأصول؛ وذلك ليتميز بعضهم عن بعض، ولتعرَف الحقوق وتُحدَّد الواجبات، ويسهل تنظيم أمر الجماعة، فهذا الإجراء تنظيمي بَحْت لا يمس جوهر المساواة الحقيقية في الأصول المذكورة، وهذا التوزيع نِعمة من نعم الله؛ لأنه مُقْتضى النظام، والنظام تستريح له النفس ويطمئن إليه القلب، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (سورة الحجرات : 13) كما أن تقسيم الشعوب إلى ألسنة وألوان دليل على قدرة الله وتمام إرادته واختياره في خَلْقه قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (سورة الروم : 23).

(هـ) جعل الإسلام هناك تفاوتًا في المُعاملة بين البشر لا على الجِنس أو اللون أو اللسان بل على أساس الكمالات النفسية والأخلاق الطيبة والعمل الصالح القائم على الإيمان بالله، فالطبيعة البشرية واحدة، وإن كان هناك اختلافٌ فهو لأمور عارضة كتأثير البيئة ، وعدم إتاحة الفرصة للبعض أن يكمل نفسه، وحارب الإسلام أن يكون هناك تفاوت في المعاملة على غير هذا الأساس، كما تدلُّ عليه آية الحُجرات السابقة، وحديث “من بَطَّأ به عمله لم يُسْرِع به نَسَبُه” رواه مسلم، وحديث “ليس منَّا من قاتل على عَصبية وليس منا من مات على عصبية” رواه أبو داود وحديث “الناس معادِن خِيَارُهُم فِي الجاهلية خِيَارهُم في الإسلام إذا فَقِهوا” رواه البخاري ومسلم والنصوص في ذلك كثيرة.

ثانيا-تطبيقات عملية للقضاء على التفرقة العنصرية:
من التطبيقات العملية لجعل التفضيل بين الناس على أساس المزايا الدينية والخُلُقية بعيدًا عن اعتبار الجنس والنسب تَسَاوي الناس في التوجُّه إليهم بالخطاب للقيام بالتكاليف الدينية، ووقوفهم متساوين في الصلاة أمام الله دون تمييز طَبقي أو عُنصري بينهم.
-وأداؤهم لشعائر الحَج مُجردين عن كل مَظهر من مظاهر التفرقة، التي كان الناس على أساسها يُفرقون بين قبيلة وقبيلة، ومن ذلك وقوفهم جميعًا بعَرَفة بعد أن كان بعضهم في الجاهلية يقف في المَشْعَر الحرام (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) (سورة البقرة: 199).
-ومنها أن أعظم المناصب الدِّينية في المسجد النبوي كانت بين محمد القُرشي وبلال الحبشي، فالنبي للإمامة وبلال للأذان.
-ومنها قول النبي ـ ـ عن سلمان “سَلْمَان منَّا أَهْلَ البيت” مع أنه فارسي، لكن شرَّفه عمله وإيمانه وإخلاصه، وذلك لمَّا رأى المسلمون قوته في حَفْر الخندق وقال المهاجرون :سلمان منَّا، وقال الأنصار: سلمان منَّا (الزرقاني على المواهب).
-ولما ضرب مسلمٌ مُشْرِكًا يوم أُحد وقال: خذها وأنا الغلام الفارسي، نهاه النبي عن هذا القول الذي يُشعر بالعَصبية الجاهلية، وأرشده إلى قول مُسْتَمَّد من وَحي الدِّين فقال له: “هَلَّا قلت: وأنا الغلام الأنصاري” رواه مسلم.
-ومنها توليته زيد بن حارثة قيادة الجيش، وكذلك تولية ابنه أسامة أيضًا، وفي جندهما كان خيار المسلمين من العرب، وزيد كان رقيقًا ثم أعتقه النبي وزوجه من زينب القُرشية التي صارت بعد ذلك من أمهات المؤمنين.
-ومنها قوله “اسمعوا وأطيعوا وإن وُلِّي عليكم عبدٌ حبشي كأنَّ رأسه زَبِيبَة” رواه البخاري ، وتطبيقًا لذلك قال عمر: والله لو كان سالم مَولى أبي حُذيفة حيًا ما جعلتُها شورى، أي لأسندت الخِلافة إليه، وسالم هذا كان مَولى لأبي حُذيفة، وأمَر أن يتولَّى الصلاة بالناس صُهيب الرُّومي، وكان صُهيب عبدًا أسر في بلاد الروم ثم بِيعَ في بلاد العَرب.
-وتزويج بلال من أُخت عبد الرحمن بن عوْف وهي قُرشية، وأعتق الحسين بن علي جارية ثم تزوجها وعندما علِم مُعاوية بذلك عاب عليه، فردَّ عليه الحُسين بقوله: قد رفع الله بالإسلام الخسيسة ووضع عنا به النقيصة، فلا لوْم على امرئ مسلم إلا في أمر مَأثم وإنما اللوْم لوم الجاهلية.
-وقد كان أكثر العلماء الأفذاذ الذين خدموا الإنسانية من غير العرب، ومن العناصر المُختلفة والألوان المتباينة التي صهرها الإسلام في بوتقته وأخرج منها نماذج مُوحدة للمسلم الكامل الذي يردد هذا الشعار:
أبي الإسلامُ لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
(ذكر ابن الأثير في كتابه الباعث الحثيث) : روى مسلم أن عمر ـ رضي الله عنه ـ لما تلقاه نائب مكة أثناء الطريق في حج أو عُمْرة قال له: من استخلفت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى ، قال ومن ابن أبزى قال رجل من الموالي، قال عمر: أما إني سمعت نبيكم ـ ـ يقول: “إن الله يرفع بهذا العلم أقوامًا ويضع به آخرين.
وذكر الزهري أن هشام بن عبد الملك قال له: من يسود مكة؟ فقلت: عطاء، قال فأهل اليمن؟ قلت: طاوس، قال: فأهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فأهل خراسان قلت: الضحاك بن مزاحم، قال: فأهل البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: فأهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي وذكر أنه كان يقول له عند كل واحد : أمِن العرب أم من المَوالي؟ فيقول: من الموالي. فلما انتهى قال: يا زهري، والله لتسودنَّ المَوالي على العرب حتى يُخطب لها على المنابر، والعرب من تحتها.
فقلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمر والله دينه ، فمن حَفِظه ساد، ومن ضيعه سقط.
-وأخبار المساواة في الحقوق والواجبات والمعاملة وأمام القضاء كثيرة مشهورة، ومن أبرزها حادث المخزومية التي أراد أسامة أن يتشفع في إسقاط حدِّ السرقة عنها فغضب النبي ـ ـ وقال: “إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سَرق فيهم الشريف، تركوه، وإذا سَرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدِّ، والذي نفسُ محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سَرقت لقطعتُ يدها” رواه البخاري ومسلم.
-ومن الأحاديث الواردة في الأخوة الإسلامية الجامعة “المُسلم أخو المسلم” رواه مسلم ، وحديث “المُسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم” رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.

حتى إن اختلاف الدِّين لم يكن مانعًا من تحقيق المساواة ونبذِ التفرقة، فهناك رابطة إنسانية عامة تعلو على العقائد، قال تعالى (لَا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (سورة الممتحنة: 8) وقد تولَّى هؤلاء مناصب عِدة في الدولة الإسلامية وأفاد المُسلمون من عملهم وخبرتهم على ما هو مذكور في كُتب التاريخ، وقد ورد أن النبي ـ ـ قام لجِنازة ولما قيل له: إنها جِنازة يهودي قال: “أليست هي نَسمَة”؟ رواه البخاري ومسلم، ولأجل أن يحمل الناس على نبذ العصبية المقيتة، وعلى التزام العدل في المعاملة حتى مع المخالفين في العقيدة قرر أن الأنبياء إخوة من علات، ومنع تفضيله على أحد من الأنبياء، على الرغم من أنه سيد ولد آدم، كما قرَّر القرآن وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل دون تفريق بين أحد منهم.

نظرة الإسلام إلى الرق:

يظهر موقف الإسلام جليًا في محاربته للتفرقة العُنصرية في تشريعه الحَكيم لإبطال الرِّق يتمثل في ثلاث إجراءات رئيسية وهي:
(أ) تضييق باب الرِّق الذي كان مُتسعًا جدًا قبل الإسلام، من حَرب وخَطْف وشراء وغير ذلك، وحَصْره في مورد واحدٍ هو الأسْر في الحروب المشروعة إذا رأى الإمام أن يضرب الرِّق على الأسرى، والأسْر مبدأ معمولٌ به قديمًا وحديثًا، وله أثره عند التصالح وتبادل الأسرى، ولم يكن الشراء طريقًا؛ لامتلاك الرقيق إلا في عهد معاوية، كما قال المُحققون.

(ب) فتح الأبواب الواسعة لتحرير الرقيق، وإيجاد مَنافذ كثيرة للانطلاق من الرِّق إلى الحُرية، فحثَّت النصوص على العِتق في كثير من الأحاديث، وجعلته كفارة لكثير من الأخطاء، كالقتل الخطأ والإفطار في رمضان والحِنث في اليمين والظِّهار وشجَّع على مُكاتبة الرقيق وتيسير دفع ما يلزمه، وأباح التسري بالإماء دون تحديد بعدد، وليس هذا إطلاقًا للمُتعة الجنسية بل للحصول على حرية الإماء إذا حَمَلْنَ من السادة وولدْن، فإنهن يُعْتَقن بعد موتهم، وكذلك ليسري الدم العربي إلى غيره من الأجناس الأخرى التي كان منها الأسرى.

(جـ) الأمر بالإحسان إلى الرقيق حتى تحين الفرصة لعِتقه، والوصايا في ذلك كثيرة يكفي منها مُراعاة شعوره، فلا يُقال له: عبدي أو أمَتي، بل يُقال فَتاي وفتاتي، أو غُلامِي وجَاريتي، كما رواه مسلم، وإكرامه في مَطْعمه ومَلْبسه، كما في الحديث “هُم إخوانكم وخَوْلكم جعلهم الله تحت أيديكُم، فمن كان أخوه تحت يده فليطْعمه مما يأكل، ويلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعيونهم” رواه البخاري ومسلم، وذلك عندما سمع النبي أبا ذر يُعيِّر رجلاً بأمه السوداء فقال له: “إنك امرؤ فيك جاهلية” كذلك نهى النبي ـ ـ عن ظلمه فقد سمع أبا مسعود يضرب غلامه فقال له: “الله أقدرُ منكَ عليه” فكفَّر أبو مسعود عن ذنبه بعِتقه، وقال النبي ـ ـ في ذلك: “لو لم تفعل للفحتك النار” رواه مسلم.

هذا، وإذا كان الإسلام يضرب أروعَ الأمثلة في احترامه لآدميةِ الإنسان عن طَريق الإحسان إلى الرقيق، فإنه من غير شك يُراعي هذا التكريم مع من لا يملك الإنسان رقبته، بل يملك رعايته وتوجيهه لا غير، وذلك كحال الرعايا في البلاد الإسلامية من الأديان المُختلفة، لقد قال عمر بن الخطاب في توجيه عُماله، أي حكام البلاد المفتوحة: إني لم أُرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبْشَارَكُمْ ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم ليعلِّموكم دينكم وسُنَّتكم، فمن فُعل به سوى ذلك فليرفعه إليَّ، فوالذي نفسي بيده لأقصنَّه منه، وقد اقتص للقِبطي من ابن عمرو بن العاص على ملأ من الناس، وقال كلمته الخالدة: متى استبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ “سيرة عمر لابن الجوزي ص 67ـ 70”.
وكل ذلك من وحي وصية الإسلام بأهل الذِّمة ففي الحديث “من ظَلَمَ مُعاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ شيئًا منه بغير طِيب نفسٍ فأنا حَجِيجه يوم القيامة” رواه أبو داود، وقال أيضًا: “إن الله لم يُحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي فُرِضَ عليهم” رواه البغوي.

شبهات وردود:

(أ) قد يقول قائل: إذا كان الإسلام ينبذ التفرقة العُنصرية فلماذا تُوجد تفرقة في معاملة بعض الناس؛ كجعل نصيبِ الذَّكَر مثل نصيبِ الأنثيين في المِيراث، وجعل شهادته بشهادة امرأتين.
والجواب: أن هذه التفرقة في المُعاملة ليست على أساس عُنصري مما يتعامل على أساسه المستعمرون اليوم؛ وإنما هي لاعتبارات قائمة على المواهب والاستعدادات، والحياة البشرية لابد أن يكون فيها تفاوت في ذلك لتترتب عليها آثار مناسبة لها، وهذا هو مُقتضى العدل؛ قال تعالى (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (سورة القلم : 35، 36) وقال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (سورة ص 28) وقال تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) (سورة الأحقاف : 19) وقال تعالى: (وَلَا تَتمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللهُ بِه بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) (سورة النساء : 32).
وبخصوص المثالِ السابق في المِيراث والشهادة بالنِّسبة للرجل والمرأة قال العلماء: إنَّ الرَّجل هو الذي يتولَّى الإنفاق عليها من نصيبه وهو لا يمس نصيبها مُطْلقًا في هذا الشأن؛ فهو محفوظ لها تتصرف به في أمورها الخاصة كيف تشاء؛ على أن إثبات حقِّها في الميراث بوجه عام هو دليل مساواتها له في مُطلق الحق؛ أما التفاوت فيه فهو أمر يقتضيه نظام الحياة؛ وكون شهادتها على النصف من شهادة الرجل بين حِكْمته قول الله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَونَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى) (سورة البقرة : 282) ومُراعاة طبيعتها البشرية أمرًا لابد منه ولا يُعاب عليه؛ كما لا يُعاب به أحد، على أن شهادتها في بعض الأحيان هي المُعتمدة دون الرجل، كمسائل الرضاع والبكارة والعيوب الداخلية للمرأة.

(ب) وقد يُقال أيضًا، إذا كان الإسلام لا يُقر التفرقة العُنصرية فلماذا رأينا بعض الولاة يخالفون ذلك، كما حدث في الدولة الأموية التي قلَّدت الوظائف الهامة للعرب دون العَجم.

والجواب أن عمل هؤلاء لا يُعدُّ تشريعًا يُناقض التشريع المُعتبر في مصادره المعروفة، وقد تكون هناك ظروفٌ جعلت هؤلاء الولاة يتخذون هذا الإجراء، وذلك كعدم اطمئنان العرب إذ ذاك إلى العجم الداخلين في الإسلام حديثًا، والذين لم يزل الكثير منهم متأثرًا بمواريثه الدينية والسُّلوكية، الأمر الذي جعل بعض الأفراد ينادي بما سُمي باسم الشعوبية، وجاءت على أثر هذه الصيحات الدولة العباسية بجهود الفارسيين المُتشيعين للبيت الهاشمي، والناقمين على البيت الأموي.
ومهما يكن من شيء فإن هذه التصرفات السياسية مَوكولة إلى رأي القائمين بالأمر، وهي على كل حال لا تعرض النصوص الأصلية في مقاومة التفرقة العُنصرية ومن أراد التوسعة فليرجع إلى كتابنا “دراسات إسلامية لأهم القضايا المعاصرة”.