لم يعرف الإسلام التعصب الفكري في إطار الشرع،فمادام المرء لا يخرج بفكره عن كليات كتاب الله،والسنة النبوية ،فإن الأمر فيه سعة،ويُرفض التعصب الفكري ،بل هناك مرونة فكرية في الإسلام ،وتلك المرونة هي من العوامل التي جعلت من الإسلام شريعة خالدة ،صالحة لكل زمان ومكان.

هل يجوز التعصب الفكري

يقول الدكتور عبدالفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر:
لا أحد ينكر على أحد اعتناق مذهب فكريّ دون آخر إذا كان ما اعتنقَه من ذلك لا يدعو إلى نبذ الأديان السماوية أو تعطيل شرائعها، أو حَصْرِ شَرْع الله سبحانه في مجال دون سائر المجالات التي ينبسط عليها سلطانه في شتى مناحي الحياة، أو استباحة ما حرم الله تعالى.
وإنه لَممّا يدعو إلى العجب في عصرنا أن يتعصب البعض لفكر بعينه اعتَنقَه ليُنصِّب من نفسه حَكَمًا على أفكار الآخرين، فيرمي فكر هذا بالتخلف والجمود، وفكر ذاك بالإلحاد، وفكر غيرهما بالتميُّع وعدم صلابته في الحق، ونحو هذا من الأحكام التي صارت تُلقَى جُزافًا دون تدبر أو رَوِيَّة، وقد كان كثير من السلف يتورع عن إلقائها مخافةَ المأثَم إذا لم تكن أفكار مخالفيهم على نحو ما قالوا. وقد نشأ عن هذا التعصب الفكريّ في عصرنا من المفاسد ما لم يَعُدْ خافيًا على أحد، من اعتداءٍ على الأنفس والأموال والأمن العام، واستباحة ما حرم الله سبحانه بعلل عليلة لا تُقنع الأريب أو تَرقَى إلى لُبّ اللبيب.

منهج السلف التعصب الفكري

رحم الله سلفنا الصالح الذين نبذوا هذا التعصب الممقوت رغم علوّ كعبهم في مجال المناظرة والجدل، وبلوغهم جميعًا رتبةً من الاجتهاد في علوم الشريعة لا يدَّعيها لنفسه أحد من رموز الفكر الإسلاميّ في عالمنا المعاصر، فلم يُؤثَرْ عن أحد منهم أنه حكم على فكر غيره بالإلحاد أو الكفر أو أنه أخرج عن الملة من يخالفه في الرأي، ما لم يخالف أصلًا شرعيًّا أو يتهجم على شرع الله سبحانه.

فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه خليفة رسول الله ـ ـ لم يتعصب لرأيه وأخذ برأي امرأة مسلمة، حينما رأي من بعض الناس مغالاة في المهور، فأراد أن يجعل للمهور حدًّا أعلى لا يتجاوزه أحد، فلما همَّ بأن يدعوَ الناس إلى ذلك انبَرَت إليه امرأة فقالت: ليس هذا إليك يا عمر، كيف تقولها والله تعالى يقول: (وإن أردتم استبدالَ زوجٍ مكانَ زوجٍ وآتيتم إحداهنَّ قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا)؟ فسكت أمير المؤمنين وقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وقد كان ـ رضي الله عنه ـ يتردد في قتل الجماعة بقتلهم واحدًا، فقال له عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أرأيتَ لو أن قومًا اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضوًا وهذا عضوًا، أكنتَ قاطِعَهم؟ قال: نعم. قال: فكذلك هؤلاء. فنزل عمر على رأيه وكتب إلى عامله ليقتل امرأةً وخليلَها، اشترَكَا في قتل ابن زوجها، وقال: لو اشتَرَك أهل صنعاء كلهم في قتله لقتلتُهم به.

وهذا عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لم يتعصب لرأيه وافترض فيه الخطأ قبل إبدائه، حينما سُئل عن المفوِّضة، التي مات عنها زوجها ولم يُسَمِّ لها مهرًا في عقد نكاحها، إذ قال ابن مسعود: أقول فيه برأيي، فإن يَكُ صوابًا فمن الله ورسوله، وإن يَكُ خطأً فمني ومن الشيطان، واللهُ ورسولُه بريئان.

وقد نحا التابعون وتابعوهم هذا المَنحَى، فهذا أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ يقول: قولنا هذا رأيٌ، وهو أحسن ما قدَرنا عليه، فمن جاءنا بأحسَنَ من قولنا فهو أولَى بالصواب مِنّا. وقد قال له بعض جلسائه، وقد صدَرَت عنه فتوَى في مسألة عُرضَت عليه: يا أبا حنيفة هذا الذي تُفتي به هو الحقُّ الذي لا شك فيه؟ فقال: والله لا أدري لعله الباطل الذي لا شك فيه. وقال زُفَرُ: كنا نختلف إلى أبي حنيفة، ومعنا أبو يوسف ومحمد بن الحسن، فكنا نكتب عنه ما يقول، فقال يومًا لأبي يوسف: ويحك يا يعقوب، لا تكتب كل ما تسمعه مني؛ فإني قد أرى الرأيَ اليوم فأتركه غدًا، وأرى الرأيَ غدًا فأتركه بعد غد.

ورُوي عن الشافعيّ أنه قال: رأيُنا صواب يَحتمل الخطأ، ورأيُ غيرنا خطأٌ يَحتمل الصواب. وروَى الربيع عنه قوله: ما من أحد إلا وتَذهَب عنه سُنة رسول الله ـ ـ وتَعزُب(تبعد وتخفى)، فمهما قلتُ من قول أو أصَّلتُ من أصل فيه عن رسول الله ـ ـ خلافٌ فالقول ما قال رسول الله ـ ـ وهو قولي. وجعل يردد هذا الكلام.
وروَى البُويطيّ عنه قوله: لقد ألَّفتُ هذه الكتب ولم آلُ فيها، ولابد أن يوجد فيها الخطأ لأن الله تعالى قال: (ولو كان مِن عندِ غيرِ اللهِ لوجَدوا فيه اختلافًا كثيرًا) فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتابَ والسُنةَ فقد رجعتُ عنه.

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاريّ(من فقهاء الشافعية): إياكم أن تُبادِروا إلى الإنكار على قول مجتهد أو تَخطئته إلا بعد إحاطتكم بأدلة الشريعة كلها، ومعرفتكم بجميع لغات العرب التي احتوت عليها الشريعة، ومعرفتكم بمعانيها وطرقها، فإذا أحطتم بها كما ذكرنا ولم تجدوا ذلك الأمر الذي أنكرتموه فيها، فحينئذ لكم الإنكارُ، والخيارُ لكم، وأنَّى لكم ذلك‍‍!
فحَرِيٌّ بنا أن نتأسَّى بهؤلاء الأئمة الأعلام، فنَنبِذَ التعصبَ الفكريّ كما نبَذوه ولم يَتَردَّوا في مهاوِيه المُهلِكة، كما هو حادثٌ الآن لكثيرين.