الارتباط بين الإيمان والتقوى وفتوحات السماء واتساع الرزق رابطة قوية تؤكدها سنن الله في خلقه وفي الآفاق، وهذا ما ورد في كتاب”مراجعات في الفكر والدعوة والحركة” للأستاذ عمر عبيد حسنة مدير تحرير مجلة الأمة القطرية جاء فيه:

حين نطرح موضوع سنن الله في الأنفس والآفاق من خلال ضغوط العجز والتخلف الداخلي التي يعاني منها العقل المسلم اليوم، والتحدي، والاستفزاز المادي الخارجي – أن تغيب عنا النظرة المتوازنة، وهي: إدراك العلاقة بين البُعْد الإيماني الغيبي، والسنن التي تحكم عالم الشهادة، ودور البُعْد الإيماني في الهداية إلى هذه السنن، والتفاعل الذي يحدثه الإيمان بين هداية السماء واستجابة الأرض لتحقيق الشهود الحضاري، وربط نتائج ذلك بقضية الإيمان.. إن اكتشاف انتظام هذه القوانين، وعملها، يقود إلى الإيمان بالله، والاستدلال بالأمور المادية والسنن الكونية على الأمور النفسية والإيمانية.

ودور الإيمان في التنبه لهذه السنن، وإعمالها، وما يهب الإيمان والتقوى الفرد المسلم من استعدادات، تدفعه إلى الإنجاز، ولا تقعد به عاطلاً عن التعامل معها.
نقصد أن العلاقة بين البُعْد الإيماني والإنجاز الحضاري، تحتاج إلى مزيد من النظر والتأمل.. لذلك رأينا بعض المدارس الحديثة التي كانت تتعامل مع المادة فقط، تراجعت لتقرر: أنه لا بد من إعادة صياغة المعادلة النفسية والاجتماعية للأمة، حتى تصبح قابلة للتطور والإنجاز التكنولوجي؛ لأن التكنولوجيا تأتي ثمرة لفلسفة، وعقيدة، ومعادلة نفسية معينة، وبالتالي فلا يمكن أن تتطور في مجتمع عقيدته تغاير أو تختلف عن مجتمع نشوئها..

ما هي العلاقة بين الإيمان والعبادة:

لقد ربط القرآن كثيرًا من النتائج المتحصلة من إعمال هذه السنن، بالتقوى.. فمثلاً: ربط بين التقوى وما تؤدي إليه من بصيرة في النظر للأمور، والحكم عليها بالحق والباطل، والصواب والخطأ.. يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا…” (الأنفال: 29)

– وهناك ارتباط بين الإيمان والتقوى، وبين اكتشاف سنن التسخير وزيادة الرزق: “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا واتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ…” (الأعراف: 96).

– وهناك ربط بين الإيمان والصبر الإيجابي، وتجاوز المحن:
“وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين” (البقرة: 155).

– وربط أيضًا بين الاستغفار والتوبة، ونزول المطر وتحقيق الخير..
– وهناك ربط بين الانتصار في ميدان المبادئ، والانتصار على الشهوات، والانتصار على العدو.

– وهناك أيضًا الربط بين الظلم الاجتماعي ومنع الفقراء حقوقهم، وفقدان الثروة..

– وهناك أيضًا الربط بين الفسق والترف، والهلاك..

– وهناك أيضًا ربط بين غياب العدل، وانقراض الأمم والحضارات..

الإنحسار الحضاري والإيمان:

ونحن بسبيل الحديث عن سنن الله في الأنفس والآفاق، ومدى خضوع الحياة والأحياء لها، لا بد أن نوضِّح أنها قدر من قدر الله سبحانه وتعالى، فهو الذي شرعها وسنَّها وناط تكليف الإنسان بها، وربط جزاء الإنسان وقيمة إنجازه، بمقدار ما يكشف منها، ويلتزم بها، فالقيام بأمانة الاستخلاف الإنساني لا تتم إلا بالتعرف عليها؛ لأن أمر تسخير الكون مرتبط إلى حد كبير بحسن إدراكها، ذلك أن التعرف عليها لا يمنح الإنسان القدرة على تسخير الكون فحسب، وإنما يمنحه قدرًا كبيرًا من التحكم بالنتائج، والتخفيف من الآثار السلبية، ومغالبة قدر بقدر، والفرار من قدر إلى قدر، وفي ذلك انفساح هائل أمام طاقات الإنسان غير المتناهية، وتحكم في الكون الذي خلق الله الإنسان سيدًا له، وجعله محل تسخيره.

والسنن التي تحكم الكون والحياة قدر من قدر الله تعالى كما أسلفنا، والتعرف عليها والانضباط بمقتضياتها هو حقيقة التكليف، وحقيقة الإيمان، والتوكل، وهي مظهر من مظاهر العدل الإلهي المطلق، حيث لا يصح غير ذلك على الله سبحانه وتعالى، فكيف يصحّ عدلاً أن يُعطى من لا يعمل، ويحرم من يعمل، وكيف يمكن للإنسان أن يستجيب لأمر الله، دون معالم هادية، وأسباب موصلة إلى النتائج؟

ويمكننا أن نقول: إن الانحسار الحضاري، الذي يعاني منه المسلمون اليوم، كان بسبب العدول عن الانضباط والانسلاك بالسنن، التي شرعها الله للشهود الحضاري (الشهادة على الناس والقيادة لهم).. ونخشى أن نقول: إن بعض علل الأمم السابقة التي حذَّرنا الله منها، والتي كانت سبب انحسارهم الحضاري، تسرَّبت إلى المسلمين، في عصور التخلف والانسلاخ عن الدين، وهي ما يمكن أن نعبِّر عنه بالغزو الفكري في المجال الديني، مما زعمه بعض المتصوفة من: عدم الاعتقاد بثبات السنن، واطرادها، وعدم تبدلها وتحولها، وتحريم النظر في علَّة الأشياء وأسبابها، والتوهم بأن الاعتقاد أن الأسباب توصل إلى النتائج، يتعارض مع الإيمان بقدرة الله الذي شرع الأسباب، وقدَّر أن تكون موصلة للنتائج، ويناقض التوكل، يتعارض مع الإيمان بقدرة الله، فكان العدول عن كشف السنن، هو الذي أورثنا الاستنقاع الحضاري، الذي نعاني منه ونظن أننا أكثر إيمانًا ويقينا، كما فعل رجال الكنيسة، فأوقفوا عجلة الحضارة والتقدم العلمي.