الأصل أن المسلم يبتعد عن مواطن الشبهة، ويتحرى الحلال في مطعمه ومشربه، وإذا تعينت حرمة طعام الظالمين فلا يجوز أكله باتفاق، أما إذا لم يتعين حرامه من حلاله فهناك خلاف بين العلماء من بين مانع ومجيز، ولا يجوز أن يكون المال سببا في إذلال من يأخذه.
البعد عن الشبهات وتحري الحلال
يقول الدكتور أحمد الشرباصي من علماء الأزهر رحمه الله تعالى :
لا شك أن الابتعاد عن مَواطن الشُّبْهة عند القدرة والاستطاعة أفضل وأجدر بالذي يريد أن يُحسن تقواهُ وأن يحفظ دينه، والرسول ﷺ يقول : ” دَعْ ما يَريبكَ إلى ما لا يَريبك”. ويقول ﷺ: “فمَنِ اتَّقَى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه “.
هل يجوز قبول هدية من يشتبه في ماله الحرام
يقول الدكتور أحمد الشرباصي: ولكن القوم مع هذا أجازوا للإنسان أن يقبل هدية الأمير، وأن يأكل طعام مَن يُشتبه في كسبه، بشرط ألا يتعيَّن عنده أن نفس الطعام من مصدر حرام ظاهر، وأن الهدية ذاتها جاءت عن طريق واضح الحرمة، بأن كانت غصْبًا أو ظلمًا أو سرقة، وأما إذا لم تَتعيَّن الحرمة في الشيء جاز قبوله، ولو كان المعطي يكسب الحرام، أو يمزج في ماله بين الطيب والخبيث؛ لأنه يُروى أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن مسعود وسأله قائلا: إن لي جارًا يعمل بالربا، ولا يجتنب في مكسبه الحرام، يَدعوني إلى طعامه فأُجيبه ؟ قال: نعم، لك الهنا وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حرامًا واستدلوا على ذلك بقول الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ :
” ما آتاك الله منها من غير مسألة ولا إشراف فخذه وتموله “. وفي رواية: ” ولا تَردَّ على اللهِ رزقَه “. وقال أبو هريرة في هذا المجال: ” إذا أُعطينا قَبلْنا، وإذا مُنعْنا لم نسألْ .
موقف بعض الصحابة والتابعين من أخذ الهدية من الحاكم
وذكر التاريخ أن بعض أعلام هذه الأمة كانوا يقبلون أعطيات الأمراء والحكام، مع ما أشيع عن هؤلاء الأمراء والحكام من الظلم والكسب المحرم.
-فرُوي أن زيد بن ثابت الراسخ في العلم والدين كان يقبل جوائز معاوية وابنه يزيد، وكذلك كان الحسين ـ رضي الله عنه ـ
-وكان عبد الله بن عمر الورِع الزاهد يقبل هدايا صهره المختار بن أبي عبيد، ويأخذ جوائزه، ويأكل طعامه، وطعن بعض النقاد في هذا الخبر.
-وكان الإمام ابن عبد البر يأكل طعام السلطان ويأخذ جوائزه، ويقول :
قُلْ لمَنْ يُنكر أكْلي لطعامِ الأُمــَراءْ *** أنتَ مِن جهلكَ هـذا في محلِّ السُّفَهاءْ
-وكان سفيان الثوري يقبل جوائز السلاطين، ويقول: جوائز السلطان أحب إليَّ من صلة الإخوان؛ لأن الإخوان يَمنُّون والسلطان لا يَمُنُّ.
-وروى التاريخ أن الشعبي والنخعي والحسن البصري وأبا سلمة بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان وعلماء البصرة والكوفة والفقهاء السبعة وابن خالد فقيه الأندلس وابن شهاب وأبا الزناد ومالكًا وأبا يوسف والشافعي وفقهاء الحجاز والعراق كانوا يقبلون جوائز السلاطين والأمراء .
-وكان هناك مَن يُشدِّد على نفسه، فلا يقبل هدايا السلاطين أو الأمراء، مثل سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وأحمد بن حنبل، وقد وصف التاريخ هؤلاء بأنهم كانوا أمثلة في الورَع والزهد والتقشُّف، وليس كل الناس بمنزلتهم .
رأي الإمام الغزالي :
وقد عقد الإمام الغزالي في كتابه “الإحياء” فصلاً طويلاً عن هذا الموضوع وقد تشدَّد في الأمر، فاشترط على الآخذ أن يعرف مِن أين جاءت العطِيَّة، وما وجْهُ حِلِّهَا، وأن يعلم أنه يجوز له أخذها شرعًا، وأن يعلم أنه لم يتجاوز المقدار الجائز له أخذه؛ وأفاض القول في درجات الزهد والورع المتعلقة بالأخذ من الأمراء والسلاطين، ومالَ إلى عدم الأخذ في أكثر الأحوال، ونقَد الذين يفتحون باب الأخذ على مصراعيه، ولكنه أورد أثناء الحديث هذه العبارة: “اختلف الناس في هذا، فقال قوم: كل ما لا أتيقَّنُ أنه حرام فلي أن آخذه. وقال آخرون: لا يحل أن يُؤخذ ما لا يتحقق أنه حلال، فلا تحلُّ شبهة أصلاً؛ وكلاهما إسراف. والاعتدال ما قدَّمنا ذكره، وهو الحكم بأن الأغلب إذا كان حرامًا حَرُم، وإن كان الأغلب حلالاً وفيه يقينُ حرامٍ فهو موضع توقفنا فيه كما سبق”.
والفرق بين مذهب الغزالي ومذهب غيره ، أن الغزالي يمنع الأخذ إذا كان الأغلب حرامًا، ويتوقف إذا كان الأغلب حلالاً وفيه حرام مُتعين، وغيره يُجيز الأخذ في الحالتين، ولكن الجميع مُجمعون على حرمة الأخذ إذا تيقَّن المرء من حرمة المأخوذ. وكذلك يحرُم أن يُذَل الآخذُ للمُعطِي بسبب هديته؛ لأن الإسلام والذل لا يجتمعان .