يقول فضيلة الشيخ عطية صقر في كتابه أحسن الكلام في الفتوى والأحكام: إذا نَذر الإنسان شيئًا خرج عن ملكه فيجب أن يوجِّهه إلى ما نُذر إليه، كما قال تعالى ( وليُوفُوا نُذورَهُمْ ) ( سورة الحج : 29 ) فمن نذر التصدُّق بشاة أو توزيع طعام وجب أن يكون التصدُّق أو التوزيع على الفقراء والمساكين، ولا يجوز للناذر أن يأخذ شيئًا من النَّذر، لا للأكل ولا لغيره كجلد الشاة للفِراش أو الصلاة عليه، أو صوفها للانتفاع به ، بل يخرج كل ما فيها لله سبحانه، حتى قال العلماء: لا يُعطي شيئًا منها أجرة للجزّار الذي ذَبحها، وإنما يجوز أن يعطيَه بعضَها صدقةً إذا كان الجَزّار فقيرا مستحقا لها.

وقد تحدَّث العلماء عن قوله تعالى في الهدي في الحج ( فَكُلُوا منْها وأطْعموا البِائِسَ الفَقيرَ ) ( سورة الحج : 28 )، وعمّا ثبت من أنّ النبيّ ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ ساق الهديَ في الحج وأكل منه أهله، فقسّموا الهدي أربعةَ أقسام :
1 ـ هدي تطوُّع، ويكون لمَن حجّ مفردًا، أي نوى الحجَّ فقط، وكذلك لمن اعتمر .
2 ـ هدي واجب لترك شيء من واجبات الحج، كرمي الجِمار والمَبيت بمزدلفة، والمبيت بمنًى، والإحرام من الميقات.
3 ـ هدي واجب لارتكاب محظور، كالتطيُّب وحلق الشعر .
4 ـ هدي واجب جزاء للصّيد وما يماثله .

وقالوا : هدي التطوع يجوز لصاحبه أن يأكل منه. أما الهدي الواجب فقد اختلفت آراؤهم فيه :

1 ـ فأبوحنيفة لا يُجيز الأكل من أي هدي واجب، واستثنى من ذلك هدي التمتُّع والقِران فأجاز الأكل منه، مستدِلاًّ بالآية المذكورة وبفعل النبي صَلّى الله عليه وسلم، بناءً على أنه كان في حجِّه متمتِّعًا أو قارِنًا .

2 ـ وأحمد بن حنبل قال مثل قول أبي حنيفة .
وعلى رأيهما لا يجوز الأكل من الهدي المنذور، ولا من الكفّارة .

3 ـ ومالك بن أنس قال: لا يجوز الأكل من جزاء الصيد، وفدية الأذى التي تجب عند حلق الشعر من الأذى، والمنذور للمساكينِ. ويجوز الأكل من هدي التمتع وفساد الحجِّ وفواته، والأنواع الأخرى من الهدي .

4 ـ والشافعي قال: لا يجوز الأكل من أي هدي واجب مطلقًا، ومنه النذر، فلا يجوز أكل شيء منه. وكذلك الكَفّارات .
جاء في تفسير القرطبي ” ج12 ص44 ” :

دماء الكَفّارات لا يأكل منها أصحابُها، ومشهور مذهب مالك ـ رضي الله عنه ـ أنه لا يأكل من ثلاث: جزاء الصيد ونذر المساكين وفدية الأذى. ويأكل ممّا سوى ذلك إذا بلغ محلَّه واجبًا أو تطوعًا، ووافقه على ذلك جماعة من السّلف وفقهاء الأمصار .

ثم قال في صفحة 46: قال الشافعي وأبو ثور: ما كان من الهدي أصله واجبًا فلا يأكل منه وما كان تطوعًا ونسكًا أكل منه وأهدى وادَّخر وتصدق. والمتعة والقِران عنده نسك. ونحوه مذهب الأوزاعي.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: يأكل من هدي المتعة والتطوّع ولا يأكل ممّا سوى ذلك ممّا وجب بحكم الإحرام.

وحكى عن مالك: لا يأكل من دم الفساد، وعلى قياس هذا لا يأكل من دم الجبر كقول الشافعي والأوزاعي .
وذكر أن دليل مالك هو أن الله جعل جزاء الصيد للمساكينِ، وكذلك فدية الأذى، جعلها القُرآن والحديث للمساكينِ، ونذْر المساكينِ مصرَّح بعدم الأكل منه، وأما غير ذلك من الهدايا فهو باقٍ على أصل قوله تعالى ( فكُلوا منْها ) وقد أكل النبي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ وعَليٌّ من الهدي وكان عليه السّلام قارِنًا في أصح الأقوال والروايات، فكان هديه على هذا واجبًا، فما تعلّق به أبو حنيفة غير صحيح. انتهى كلام القرطبي بتصرف .

وجاء في ” المغني لابن قدامة ج3 ص 565 ” ما نصه : المذهب أنه يأكل من هدي التمتُّع والقِران دون ما سواهما، نص عليه أحمد … وهذا قول أصحاب الرأي أي: أبي حنيفة وأصحابه ـ وعن أحمد أنّه لا يأكل من المنذور وجزاء الصّيد ويأكل ممّا سواهما … لأنّ جزاء الصيد بدل والنذر جعلَه لله، بخِلاف غيرهما، وقال ابن أبي موسى: لا يأكل أيضًا من الكفّارة ويأكل مما سوى هذه الثلاثة، ونحوه مذهب مالك، لأن ما سوى ذلك لم يسمّه للمساكينِ ولا مدخل للإطعام فيه، فأشبه التطوع. وقال الشافعي: لا يأكل من واجب، لأنّه هدي وجب بالإحرام فلم يجُز الأكل منه كدَم الكفّارة .

يؤخَذ من هذا العرض أنّ الطّعام المنذور لا يجوز للناذِر أن يأكل منه باتفاق الفقهاء. سواء كان النذر هديًا في الحجِّ والعمرة أو كان غير ذلك وأجازه أحمد في الأضحية فقط بل جعله مُستحبًّا” المغني ج3 ص584″.