الذي يظهر من النصوص الشرعية ومقاصدها العامة أن الاستـثمار مباح ومشروع بأصله على مستوى الفرد بل نستطيع القول بأنه ترد عليه الأحكام التكليفية من حيث عوارضه ووسائله لكنه ـ من حيث المبدأ ـ واجب كفائي على الأمة في مجموعهم ، أي أنه لا يجوز للأمة أن تترك الاستثمار.
يقول الأستاذ الدكتور على محيي الدين القره داغي:
الأدلة على مشروعية الاستثمار كثيرة منها:
1- دلالة النصوص الشرعية على العناية بالمال واستثماره:
ذلك لأن النصوص الشرعية متضافرة على أهمية المال في حياة الفرد والأمة ، وتقديم المال على النفس في جميع الآيات التي ذكر فيها الجهاد والأموال والأنفس إلاّ في آية واحدة في سورة التوبة ، الآية الحادية عشرة بعد المائة ، حيث قدمت الأنفس ، لأنها تتحدث عن الشراء ، وامتنان الله تعالى بالمال ، والمساواة بين المجاهدين ، والساعين في سبيل الرزق كما في آخر سورة المزمل ، وتسمية العامل والتاجر بالمجاهد في سبيل الله في أحاديث كثيرة … كل ذلك يدل بوضوح على وجوب العناية بالمال وتثميره وتقويته حتى تكون الأمة قادرة على البناء والمعرفة والتقدم والتطور والنهضة والحضارة ، حيث إن ذلك لا يتحقق إلاّ بالمال كما يقول تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها ).30817712
2- المال قيام المجتمع:
فقد سمى الله تعالى المال بأنه قيام للمجتمع الإسلامي ، وهذا يعني أن المجتمع لا يقوم إلاّ به ولا يتحرك ولا ينهض إلاّ به ، كما أن قوله تعالى : ( وارزقوهم فيها ) ولم يقل ( منها ) يدل بوضوح على وجوب الاستثمار حتى تكون نفقة هؤلاء المحجور عليهم ( من الأطفال والمجانين ) في الأرباح المتحققة من الاستثمار وليست من رأس المال نفسه.
3- حفظ المال من مقاصد الشريعة:
يقول الإمام الرازي : ( اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال ) ، قال تعالى : ( ولا تبذّر تبذيرا إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) ، وقال تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عُنُقك ولا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً ) ، وقال تعالى : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ) ، وقد رغب الله تعالى في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والإشهاد والرهن ، والعقل يؤيد ذلك ، لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة ، ولا يكون فارغ البال إلاّ بواسطة المال ، ثم قال : وإنما قال (فيها) ولم يقل ( منها ) لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقاً ، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكاناً لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح ، لا من أصول الأموال .. ) .
4- وجوب الزكاة يدفع للتجارة وتنمية المال:
ومن الأدلة المعتبرة على ذلك أن وجوب الزكاة في الأموال يدفع أصحابها إلى التجارة ، لأنهم إن لم يتاجروا فيها تأكلها الصدقة والنفقة ، وهذا ما يؤيده الفكر الاقتصادي الحديث حيث يفرض أنواعاً من الضرائب لدفع أصحاب الأموال إلى عدم اكتنازها ، بل قد وردت أحاديث تصل بمجموعها إلى درجة الصحيح أو الحسن الذي ينهض به حجة على وجوب التجارة في أموال الصغار ( اليتامى وغيرهم ) والمحجور عليهم ( السفهاء والمجانين وناقصي الأهلية ) فقد روى الشافعي بإسناده أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال : ( ابتغوا في مال اليتيم ـ أو في أموال اليتامى ـ لا تذهبها ـ لا تستهلكها ـ الصدقة ).
وروى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ـ ﷺ ـ ( اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة ) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد نقلاً عن شيخه الحافظ العراقي : ( إن إسناده صحيح ).
5- تداول المال يعني استثماره:
وكذلك يدل على تثمير الأموال قوله تعالى : ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) ، حيث إن الأموال لا تتداول إلاّ عن طريق توزيع الصدقات ، والاستثمار الذي يؤدي إلى أن يستفيد منها الجميع من العمال والصنّاع والتجّار ونحوهم ، وكذلك قوله تعالى : ( وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ) ، ومن القوة بلا شك قوة المال بل هي مقدمة في معظم الآيات على النفس ، فإذا كانت قوة البدن والسلاح مطلوبة فإن قوة المال أشدُّ طلباً ووجوباً .
6- حفظ المال في مقاصد الشريعة يعني استثماره:
ثم إن من مقاصد هذه الشريعة الحفاظ على الأموال ، وذلك لا يتحقق إلاّ عن طريق استثمارها وتنميتها ، كما أن من مقاصدها تعمير الكون على ضوء منهج الله تعالى ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) ، فقال المفسرون : ( معناه أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن وغرس أشجار )، وكذلك من مقاصدها الاستخلاف الذي يقتضي القيام بشؤون الأرض وتدبيرها والإفادة منها وتعميرها وكل ذلك لا يتحقق على وجهها الأكمل إلاّ عن طريق الاستثمار .
خلاصة استثمار المال:
إن الاستثمار للأموال بوجهها العام واجب كفائي على الأمة بأن تقوم بعمليات الاستثمار حتى تـتكون وفرة الأموال وتشتغل الأيادي ويتحقق حدّ الكفاية للجميع إن لم يتحقق الغنى ، ومن القواعد الفقهية في هذا المجال هو أن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب .
ويثور التساؤل حول وجوب الاستثمار على الفرد إذا كان له فائض مالي ، فالذي يقتضيه المنهج الإسلامي في أن المال مال الله تعالى وأن ملكية الإنسان له ليست مطلقة عن قيد… أنه يجب عليه أن يستثمر أمواله بالطرق المشروعة سواء كان بنفسه ، أو عن طريق المضاربة والمشاركة ونحوهما ، وأنه لا ينبغي له أن يترك أمواله الصالحة للاستثمار فيعطلها عن أداء دورها في التدوير وزيادة دورانها الاقتصادي الذي يعود بالنفع العام على المجتمع .
كما أن قوة المجتمع والأمة بقوة أفرادها ولا سيما على ضوء منهج الاقتصاد الإسلامي الذي يعترف بالملكية الفردية، وأن ملكية الدولة محدودة، ومن هنا فتقع على الأفراد مسؤولية كبرى في زيادة الأموال وتقويتها عن طريق الاستثمار.