المتفق عليه من فهم المفسرين لآيات القرآن أكثر من المختلف فيه ، ولم ينقل عن العرب أنهم اختلفوا في فهمه كما اختلف من بعدهم ، كما أن علماء البلاغة اختلفوا في فهم كل كلام بليغ غير القرآن ، وأنَّ أكثر ما تعهد من الخلاف في التفسير سببه أن المتأخرين لم يحاولوا فهم القرآن بذاته ، وإنما حاولوا تطبيقه على مذاهبهم في النحو والبلاغة والكلام والفقه .
يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:
فمن الغلو في تقرير الخلاف في فهم الآيات الزعم بأن الاتفاق بين المفسرين العارفين بأسرار العربية قليل ، والصواب أن الخلاف بين المحققين العارفين هو القليل ، وأن الأكثر متفق عليه ، ثم إن الجواب يتجلى في مسائل نذكرها بالاختصار فنقول :
( 1 ) إنَّ الغرض من البلاغة أن يبلغ المتكلم ما يريد من نفس المخاطب وهو الفهم والتأثير ، وقد بلغ القرآن من نفوس من دعوا به إلى الإسلام مبلغًا لم يعهد مثله لكلام آخر عربي ولا عجمي ، وما ذلك إلا أنهم فهموا معانيه بدلائلها وبراهينها وتأثروا بحِكَمه ومواعظه حتى تركوا عقائدهم وتقاليدهم وعاداتهم التي كانوا يفاخرون بها ، وأُنشِئوا خلقًا جديدًا ، وحتى كان المشاغبون المعاندون منهم لم يروا وسيلة للتخلص من تأثيره إلا بالإعراض عن سماعه ، واللغو واللغط عند تلاوته حتى لا يصل منه شيء إلى نفوسهم كما حكى الله تعالى عنهم بقوله : [ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ]( فصلت : 26 ) ولم ينقل عن العرب من آمن منهم ، ومن لم يؤمن أنهم اختلفوا في فهمه كما اختلف من بعدهم وإنما كان الراسخون في العلم كالخلفاء لا سيما رابعهم، وكالعبادلة فهم أعلى من فهم سائر الناس كما فهم ابن عباس من سورة النصر أن النبي عليه الصلاة والسلام قد دنا أجله ، وأن قوله تعالى : [ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه ]( النصر : 3 ) نعي له وأقرّه النبي على ذلك .
ولا شك أن سائر الصحابة قد فهموا معنى السورة كما فهمها ابن عباس ، وهي على بلاغتها ، وهذا الفهم الجديد من ابن عباس مزيد في البلاغة ودليل على أن لها مراتب متفاوتة ، ولا يمكن أن يكون الناس المتفاوتون في فهم كل شيء ، والعلم به يتفقون في فهم القرآن ، والعلم به وهو أعلى كلام وأجمعه للمعارف العالية الإلهية والنفسية والشرعية .
( 2 ) إنَّ علماء اللغة والبلاغة اختلفوا في فهم كل كلام بليغ غير القرآن كالمعلقات السبع وغيرها مما يؤثَر عن البلغاء في الجاهلية والإسلام ، فلو كان اختلاف الأفهام في الكلام ينافي بلاغته لما كان لنا أن نقول إن في الكلام بليغًا إلا بعض الجمل البديهية من العامة الجهلاء كقولهم : أكلت رغيفًا وشربت كوزًا من الماء ، وقد يختلفون في فهم ما عدا البديهي من كلام العامي كما يختلفون في فهم البديهي من كلام العالم بحمله على الكناية أو المجاز .
وإذا قرأت القرآن على عامي عرف العربية ولو ممزوجة باللحن والدخيل ، وأنشدته قصيدة من شعر امرئ القيس أبلغ شعراء العرب لرأيته فهم من القرآن ما لم يفهم من القصيدة ، وكان للقرآن في نفسه الأثر الذي ليس للقصيدة ما يدانيه ، ومن هنا تعلم أن بيان القرآن عجيب ، وأن لكل من يعرف العربية منه نصيب : ولكن تأخذ الأذهان منه على قدر القرائح والفهوم .
( 3 ) إنَّ أكثر ما تعهد من الخلاف في التفسير سببه أن المتأخرين لم يحاولوا فهم القرآن بذاته ، وإنما حاولوا تطبيقه على مذاهبهم في النحو والبلاغة والكلام والفقه حتى كأن مذاهبهم هي الأصل الثابت ، ولا بد من تطبيق القرآن عليه ، ولو حاولوا فهمه بذاته ، وأعدوا له مزاولة أساليب اللغة ، ومعرفة متنها والاطلاع على السنة من غير تقيد بمذهب مخصوص ؛ لأن القرآن فوق المذاهب والآراء – لكان خلافهم أقل ووفاقهم أكثر ، ولكان رجوع أحد المختلفين إلى الوفاق بعد النظر في دليل الآخر قريبًا ، فالتقليد في الدين وفي قوانين اللغة هو منشأ البلاء الأعظم في الخلاف .
فعلم ما قلناه أن الخلاف دون ما قال السائل ، وأنه لا ينافي البلاغة قل أو أكثر ، ولو كان الخلاف في الكلام هل هو صحيح أو غير صحيح ، وهل هو بليغ أو غير بليغ ، وكان كل ذي قول يورد الأدلة على تأييد رأيه لكان للجاهل أن يشك في بلاغته ؛ لأنه علم أن أهل الشأن اختلفوا فيها ، وهو غير قادر على الترجيح .
والأمر في القرآن على غير ذلك ، فقد أجمع بُلغاء العرب – من آمن منهم ومن لم يؤمن – على إعجازه ، وكذلك العلماء بالعربية الذين أخذوها بالصناعة ، فلم يبق للجاهل عذر بعد العلم بأن هذه مسألة لا نزاع فيها عند العارفين بهذا الشأن .