لا يكون تفضيل عبادة على عبادة إلا بنص صريح أو بقياس مستقيم، فينظر أيهما أصلح فيعمل به، فإن كانت الحاجة مثلا لبذل المال لليتيم أكبر قدمت وتكون النفقة عليهم أولى من النفقة على غيرهم، وإن وجد من يرعى اليتامى ولا راع لفقراء الصائمين فإن إطعامهم يقدم.
يقول الشيخ محمد صالح المنجد :
–أولا :
المفاضلة بين العبادات من أدق أبواب الفقه التي ينبغي أن يتأمل فيها الفقيه ؛ لأن العبادات طاعات لله تعالى ، والمفاضلة بين الطاعات مفاضلة في درجات ما يحبه الله عز وجل ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالنص الصحيح الصريح ، أو القياس المستقيم .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض ؛ فإنه يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه ، وما يناسب أوقاتهم ، فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد ، لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره : أن ملازمة ذكر الله دائما هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة ” انتهى. ” مجموع الفتاوى”
ويقول ابن القيم رحمه الله :
” تفاضل الأعمال ليس بكثرتها وعددها ، وإنما بإكمالها وإتمامها وموافقتها لرضا الرب وشرعه ” انتهى. ” المنار المنيف “
ويقول العلامة المقبلي رحمه الله :
” إن الخوض في المفاضلة من دون توقيف مجازفة وتخمين ، إذ مواقع الأعمال متركبة من عدة أمور ، وملاحظة جهات وكيفيات بعيدة عن إحاطة العقول بها ” انتهى.
–ثانيا :
وقد بين العلماء مسائل وأوجه دقيقة في مسائل المفاضلة بين العبادات ، من أهمها قاعدة المفاضلة بحسب المنفعة المتعدية المتحققة من هذه العبادة ، فالعبادة الأكثر نفعا هي العبادة الأعظم أجرا وفضلا ، وهذا ما ينبغي على العامل المتعبد أن يراعيه .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :
” ولو قيل : ( الأجر على قدر منفعة العمل وفائدته ) لكان صحيحا ” انتهى.
–ثالثا :
ولذلك ، فالذي نراه في مسألة المفاضلة مثلا بين تفطير الصائم ، وكفالة اليتيم : أن ينظر في الظرف والحال من حوله :
فقد يكون أكثر توجه الناس نحو كفالة الأيتام ونسيان سد جوعة الفقراء الصائمين ، أو قد تقوم مؤسسات كبرى على رعاية الأيتام ولكن الصائمين الفقراء لا يجدون من يطعمهم ، أو قد يكون الفقير الصائم من قرابته أو جيرانه أو أصحابه ، أو يتعرض له السائل الصائم لحاجة عاجلة من طعام أو شراب يسد به رمقه ورمق عياله ، ففي كل هذه الحالات ينبغي تقديم تفطير الصائم على كفالة اليتيم .
أما إذا كان الحال عكس الظروف السابقة ، كأن يكثر الأيتام ، وخاصة في أيام الجهاد حيث يكثر أبناء الشهداء ، وتصيب المسغبة الصغار والأطفال ، فهم أولى حينئذ من الصدقة على الصائمين الكبار .
وهذا التفصيل بناء على أن تفطير الصائم وكفالة اليتيم يشتملان على إطعام الطعام ، بل إن كفالة اليتيم تتضمن أمرا زائدا على ذلك : وهي الرعاية والتربية :
يقول النووي رحمه الله :
” كافل اليتيم القائم بأموره من نفقة وكسوة وتأديب وتربيه وغير ذلك ” انتهى.
يقول ابن العربي رحمه الله :
” إطعام الطعام مع السغب ، الذي هو الجوع : أفضل من إطعامه لمجرد الحاجة ، أو على مقتضى الشهوة ، وإطعام اليتيم الذي لا كافل له : أفضل من إطعام ذي الأبوين لوجود الكافل وقيام الناصر ” انتهى.
ويقول ابن القيم رحمه الله :
أفضل الصدقة ما صادفت حاجة من المتصدق عليه وكانت دائمة مستمرة ، ومنه قول النبي ﷺ : ( أفضل الصدقة سقي الماء ) – رواه أبو داود بإسناد حسن -، وهذا في موضع يقل فيه الماء ويكثر فيه العطش ، وإلا فسقي الماء على الأنهار والقنى لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند الحاجة ” انتهى.
ويقول الشيخ سليمان النجران :
” والصدقة من العبادات الفاضلة ، وأفضل الصدقات ما اجتمع فيها أكثر أسباب التفضيل ، فتزداد فضيلتها مع شدة الحاجة للمتصدق عليه ، وتكون أفضل مع كونه قريبا ، وتكون أفضل مع كون القريب مبطنا للعداوة ، وتكون أفضل مع كون المتصدق صحيحا شحيحا ، وتكون أفضل إذا كانت عن ظهر غنى ، وتكون أفضل مع كون الصدقة في زمان ومكان فاضلين…فبحسب استطاعة المكلف تكميل أسباب التفضيل يكون علو منزلة العمل عند الله عز وجل “
–رابعا :
ينبغي أن نعلم أن من أهم أسباب تفاضل الأعمال في الأجور ما يقوم في قلب العامل من إقبال على الله ، وصدق في سؤاله عز وجل ، واستسلام وانقياد تامَّيْن لأمره ، فمن قام في قلبه استشعار العبادة كان أعظم أجرا من غيره .
يقول ابن القيم رحمه الله :
” تفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها ” انتهى.