لا خلاف بين الفقهاء في مشروعية الإقراض الحسن، بل فعل ذلك حسن مندوب إليه. ومتى أراد المقرض وجه الله تعالى وطمع فيما عند الله فهو مأجور، ودليل ذلك:
(أ) ما روى مالك في الموطأ عن ابن عمر قال: السَّلَفُ على ثلاثة وجوه: سَلَفٌ تسلفه تريد به وجه الله، فلك وجه الله، وسَلَفٌ تسلفه تريد به وجه صاحبك، فلك وجه صاحبك. وسَلَفٌ تسلفه لتأخذ خبيثاً بطيّب، فذلك الربا. فدل الحديث على أن من يقرض شخصا طلبا للمنزلة عنده، أو منًّا عليه فليس بمأجور.
(ب) قول الشرواني في حاشيته على تحفة المحتاج للهيتمي : إن الإقراض قد يكون مباحاً لا مندوباً إليه: ويمكن تصويره بما إذا دفع إلى غني بسؤال من الدافع مع عدم احتياج الغنّي إليه، فيكون مباحاً لا مستحباً؛ لأنه لم يشتمل على تنفيس كربة، وقد يكون في ذلك غرض للدافع، كحفظ ماله بإحرازه في ذمة المقترض.
وعبارة السيد عمر: هل يشترط في ندبه احتياج المقترض في الجملة، كما تشعر به الأحاديث، حتى لو اقترض تاجر لا لحاجة، بل لأن يزيد في تجارته طمعاً في الربح الحاصل منه لم يكن مندوباً بل مباحاً، أو لا يعتبر؟ ما ذكر محلّ تأمل. ولكن أيهما أفضل من الآخر وأعظم أجرا: القرض أم الصدقة؟
لقد ورد في ذلك حديثان، يفيد ظاهرهما التعارض:
الأول : عن أبي أمامة أن رسول الله ﷺ قال: (دخلَ رجلٌ الجنَّة، فرأَى على بابها مكتوباً: الصّدقةُ بعَشرِ أَمثالها، والقرضُ بثمانية عشر).( أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في الشعب وقد حسنه الشيخ الألباني).
الثاني: عن عبد الله بن مسعود– رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة. ( رواه ابن ماجه، ص 347، والحديث صححه الشيخ الألباني).
فالحديث الأول يبين أن القرض أعظم أجرا من الصدقة بثماني درجات، والحديث الثاني يبين بجلاء أن ثواب القرض على النصف من ثواب الصدقة، وأن الشخص إذا أراد أن يصيب أجر الصدقة عن مبلغ ما فإما أن يتصدق به وإما أن يقرض هذا المبلغ مرتين اثنتين. وهذا فعلا ما فهمه بعض رواة هذا الحديث، ففي سنن ابن ماجة بسنده: كان سليمان بن أذنان يقرض علقمة ألف درهم إلى عطائه، فلما خرج عطاؤه تقاضاها منه واشتد عليه فقضاه، فكأن علقمة غضب، فمكث أشهرا ثم أتاه فقال: أقرضني ألف درهم إلى عطائي قال: نعم وكرامة. يا أم عتبة! هلمي تلك الخريطة المختومة التي عندك فجاءت بها فقال: أما والله إنها لدراهمك التي قضيتني ما حركت منها درهما واحدا، قال : فلله أبوك ما حملك على ما فعلت بي؟
قال: ما سمعت منك، قال: ما سمعت مني؟ قال: سمعتك تذكر عن ابن مسعود أن النبي (ﷺ) قال : ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة.( والقصة ضعفها الشيخ الألباني، وذكر لها شواهد متعددة في كتابه ( إرواء الغليل، حديث رقم (1389) لكن الجزء المرفوع إلى النبي ﷺ صحيح كما مر).
ومن أقوى ما رأينا في إزالة هذا التعارض ما ذكره الإمام المناوي بأن مرد ذلك يكون على حسب حالة المحتاج، فإن كان طالب القرض أحوج من طالب الصدقة كان ذلك أفضل، ويشترط للحصول على ثواب القرض إخلاص النية لله تعالى.
قال الإمام المناوي تعقيبا على الحديث الأول: وهذا الحديث يعارضه حديث ابن حبان: من أقرض درهماً مرتين كان له كأجر صدقة مرة، وجمع بعضهم بأن القرض أفضل الصدقة باعتبار الابتداء بامتيازه عنها بصون وجه من لم يعتد السؤال، وهي أفضل من حيث الانتهاء لما فيها من عدم رد المقابل، وعند تقابل الخصوصيتين قد ترجح الأولى، وقد تترجح الثانية باعتبار الأثر المترتب، والحق أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان ، وعليه تنزل الأحاديث المتعارضة.
وقال الشوكاني: وفي فضيلة القرض أحاديث وعموميات الأدلة القرآنية والحديثية القاضية بفضل المعاونة، وقضاء حاجة المسلم وتفريج كربته، وسد فاقته شاملة له، ولا خلاف بين المسلمين في مشروعيته، قال ابن رسلان: ولا خلاف في جواز سؤاله عند الحاجة ولا نقص على طالبه، ولو كان فيه شيء من ذلك لما استسلف النبي ﷺ، قال في البحر: وموقعه أعظم من الصدقة، إذ لا يقترض إلا محتاج اهـ وورد ما يدل على
أن قرض الشيء مرتين يقوم مقام التصدق به مرة. انتهى.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:
لا خلاف بين الفقهاء في أن الأصل في القرض في حق المقرض أنه قربة من القرب، لما فيه من إيصال النفع للمقترض، وقضاء حاجته ، وتفريج كربته ، وأن حكمه من حيث ذاته الندب ، لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ أنه قال : { من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن سترمسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه} ، لكن قد يعرض له الوجوب أو الكراهة أو الحرمة أو الإباحة ، بحسب ما يلابسه أو يفضي إليه ، إذ للوسائل حكم المقاصد .
وعلى ذلك : فإن كان المقترض مضطرا، والمقرض مليئا كان إقراضه واجبا، وإن علم المقرض أو غلب على ظنه أن المقترض يصرفه في معصية أو مكروه كان حراما أو مكروها بحسب الحال، ولو اقترض تاجر لا لحاجة، بل ليزيد في تجارته طمعا في الربح الحاصل منه، كان إقراضه مباحا، حيث إنه لم يشتمل على تنفيس كربة، ليكون مطلوبا شرعا.