عدم تأثر أهل الكتاب ببلاغة القرآن وفصاحته ليس نفيا لإعجازه ، وإنما صدهم عن القرآن كثرة البدع والمنكرات في المسلمين وعداوة المسلمين لهم ، فهذا كاف لأن يكون حجابًا دون محاسن القرآن ، وقلما ينظرون فيه نظر إنصاف ، ومن نظر فإن العداوة الجنسية تمنعه من قول الحق .

يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:

من النصارى من لهم سبق في اللغة والبلاغة ومع ذلك لا يعترف بإعجاز القرآن مع ما فيه من أسرار البلاغة وبديع المعاني والبيان ، مع أن العرب زمن التنزيل كانوا في دهشة منه واعترفوا بإعجازه.

السبب في هذا وذاك أنهم قد اتخذوا الدين جنسية ورابطة اجتماعية ، فهم يحافظون على العقائد والتقاليد والعادات المِلية التي تربطهم بعامة أهل ملتهم ؛ إذ لو أهملوها لانحلت جامعتهم وصاروا بغير أمة وغير ملة .

ولم ينظروا في الإسلام نظر إنصاف فيفهموه من أصوله ؛ لأن المسلمين الذين اتخذوا الدين جنسية أيضًا قد عادوهم عداوة لم يأذن بها الإسلام فكانت هذه المعاداة سببًا في بحث كل فريق عن عيوب الآخر فقط ، لا عن حقيقة ما عنده .

ولا يخفى على أحد أن البدع والمنكرات الفاشية في المسلمين كافية لأن تكون حجابًا دون محاسن الإسلام حتى تحجبَ العاقل المنصف ، بله المعاند المتعسف ، فالعارفون بفنون البلاغة من النصارى قلما ينظرون في القرآن نظر إنصاف ، ومن نظر ولاح له أنه معجز فإن العداوة الجنسية تمنعه من قول الحق لا سيّما إذا كان يرى أن كون القرآن معجزًا ببلاغته لا يدل على كونه منزلاً من عند الله تعالى ، وجلهم أو كلهم يرون ذلك .

وقد وجد من أهل العلم والإنصاف منهم من صرح بأن القرآن قد بلغ حد الإعجاز في بلاغته ، هذا ، وقد علمنا بالاختبار أن أكثر المتعلمين العقلاء من النصارى لا يعتقدون بالتثليث ، ولا بشيء من الخرافات المعروفة عند قومهم ، بل منهم المتطرفون الذين لا يعتقدون إلا بالمحسوسات والبديهيات المعقولة ، ولو أن المسلمين الذين يعيش معهم هؤلاء النصارى أهل نظر وبرهان ، واطلاع على علوم هذا الزمان ، لا أهل تقليد للأموات ، وتسليم بالخرافات ، وكانوا يعاملونهم بالإنصاف ، ويجادلونهم بالتي هي أحسن – لرأينا كثيرين منهم دخلوا في الإسلام ، ولرأينا من لم يدخل فيه يعترف بفضله ولا يعاديه ، وإنني أرى أننا أحوج إلى حسن معاملتهم والقسط إليهم في هذا العصر منا إلى ذلك العصور السابقة ، وأن هذا خير لنا ولهم في الدين والدنيا فعسى أن يوجد في عقلاء المسلمين كثيرون يسعون في هذه السبيل .