حجة أبو بكر الصديق في أي عام وما هي أسبابها:

حجة سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالمسلمين صحيحة، وكانت في عام 9هجرية، وهذا تفصيل ذلك: وسط زحام من الأحداث الكبيرة التي حفلت بها سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم– تأتي حجة أبي بكر الصديق بالناس في السنة التاسعة للهجرة؛ فقد شهد العام الثامن قبلها فتح مكة، وغزوة حنين، وغزوة الطائف وغيرها، وشهد العام التاسع ـ قبلها أيضًا ـ إسلام ثقيف وقدوم بعض وفود العرب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعد حجة أبي بكر هذه، شهد العام العاشر تزايد الوفود العربية القادمة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل: الأزر، وعبد القيس، وبني حنيفة، وكندة، كما شهد حجة الوداع…

وسط هذه الأحداث المهمة جاءت حجة الصديق ـ رضي الله عنه ـ بالمسلمين، ولها موقع تشريعي مهم في الإسلام؛ فقد استقرت فيها أحكام قاطعة تبقى ما بقي الدين.

أبو بكر الصديق رضي الله عنه أمير الحجيج:

في السنة التاسعة من الهجرة ـ وبعد العودة من غزوة تبوك ـ أمَّرَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا بكر على ثلاثمائة من المسلمين؛ ليؤدي بهم مناسك الحج؛ فسار أبو بكر بمن معه إلى مكة، ومعه وصية رسول الله أن يعلن في الناس ألاَّ يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

ونزل الوحي على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بآيات من سورة براءة، فبعث بها علي بن أبي طالب خلف أبي بكر؛ ليقرأها عليٌّ على الناس في الموسم. روى البخاري عن حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في تلك الحجة في المُؤذنين (أي المُعلنين)، بعثهم يوم النحر يُؤذنون بمِنى ألاَّ يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد: ثم أردف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعليٍّ بن أبي طالب؛ فأمره أن يؤذن ببراءة (أي يعلن بقراءتها)، قال أبو هريرة: فأذن معنا عليٌّ في أهل مِني يوم النحر ببراءة، وألاَّ يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. (صحيح البخاري ـ كتاب الحج).

ويروي كُتَّاب السيرة أن عليًّا حين خرج ليلحق بأبي بكر ركب ناقة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما رآه أبو بكر سأله: أميرٌ أم مأمورٌ؟ قال: بل مأمور، وأخبره بما كلَّفه به رسول الله؛ فمضوا إلى مكة، حتى إذا كان يوم النحر (العاشر من ذي الحجة) قام عليٌّ وتلا على الناس ما نزل من آيات سورة براءة.

كما تروي كتب السنة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين اختار لقراءة سورة براءة علي بن أبي طالب دون غيره من كبار الصحابة ـ قال: “لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلاَّ رجل من أهلي” (رواه أحمد والترمذي وحسنه)، وعلة ذلك أنه كان من “سيرة العرب أنه لا يحل العقد إلا الذي عقده، أو رجل من بيته…” فبعث إليهم رسول الله بابن عمه وزوج ابنته.

وراح المؤذنون يقومون بدورهم، ويطوفون على الناس يبلغونهم رسالة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وعلي بن أبي طالب يقصد الناس في مجامعهم الكبيرة من المناسك، يتلو عليهم آيات سورة براءة، وقد تضمن ما أعلنه المؤذنون وما أعلنه علي ـ رضي الله عنه ـ ما يلي:

(1) تحريم الحج على المشركين، وهو ما نادى به المؤذنون، وتضمنته سورة براءة في قول الله تعالي: (يا أيُّهَا الذينَ آمَنوا إنَّمَا المشركون نَجَسٌ فلا يَقربُوا المسجدَ الحرامَ بعدَ عامِهِمْ هَذَا..) (سورة التوبة: 28)، وكانت قريش قبل ذلك لا تصد عن البيت أحدًا، فقد ارتبطت بالبيت الحرام مصالحهم الاقتصادية.

(2) منع الناس من الحج عرايا، وكان من عادات الجاهلية أنه إما أن يحج القادم إلى مكة (رجلاً كان أو امرأة) في ثياب قريش وأصهارها، وإما أن يحج عاريًا؛ فحرم الإسلام ذلك.

(3) إمهال المشركين الذين ليست بينهم وبين المسلمين عهود أربعة أشهر، ومن كانت له مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عهود فهو مُؤجَّل حتى ينتهي وقت عهده، وهذا هو المعنى الرئيسي الذي جاء علي بن أبي طالب يبلغه من خلال سورة براءة.

وهؤلاء المشركون الذين أمهلهم الإسلام هم أنفسهم الذين عاندوه من قبل أشد العناد وحاربوه، وقتلوا أهله، وفي الوقت نفسه بقوا على شركهم، برغم انتصار المسلمين وانتشار الإسلام في أنحاء الجزيرة.. فلم يبادرهم المسلمون بالحرب، وإنما أمهلومهم حتى يتدبروا أمرهم، فإما أسلموا أحرارًا، أو نزحوا عن أماكن إقامتهم إلى خارج الجزيرة العربية التي صَفَت للإسلام بعد عداوتهم المستحكمة.

لماذا لم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه بالناس في التاسع من الهجرة:

كان الترتيب إلهي فقد سارت الأحداث هكذا: أبو بكر يحج بالناس في العام التاسع في عدد قليل من المسلمين، ثم يحشد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العام التالي أكثر من مائة ألف من المسلمين ويحج بهم، وهذا سير طبيعي للأحداث لما يلي:

(أ) قبل حجة الوداع لم يكن حال المسلمين قد استقر تمامًا، فكانت ما تزال هناك قبائل قريبة منهم باقية على شركها، مثل هوازن وثقيف وطيئ، كما هدد الروم المسلمين من الشمال؛ فقدمت الوفود، ووقعت غزوات في العامين الثامن والتاسع حلت تلك الإشكالية، وصار في الإمكان قيام المسلمين مع نبيهم- صلى الله عليه وسلم- بحجة جامعة دون خوف.

(ب)أدت حجة أبي بكر دورين هامين في التمهيد لحجة الوداع؛ فقد حددت قراءة سورة براءة على الوفود العربية القادمة من أنحاء الجزيرة موقف المسلمين من بقايا مشركي العرب؛ فدفعهم ذلك إلى مراجعة أنفسهم وتقرير ما سيفعلونه، ولم يكن هنالك تجمع في بلاد العرب يمكن أن ينتشر من خلاله هذا الإعلان مثل موسم الحج.

وأما الدور الثاني لحجة أبي بكر في التمهيد لحجة الوداع الجامعة؛ فقد زالت بها بقية أعمال الجاهلية التي ألصقوها بالحج، ولم يعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع في حاجة للانشغال بغير بيان المناسك في صورتها النقية التي أخذها الناس عنه، وتابعه المؤمنون في كل عصر عليها.